مجلة المرأة للتنمية والسلام – هبة محمد
في عالم الإعلام اليمني، تتألق نساء رائدات يُلهمنَ بقوتهنّ وشجاعتهنّ في مواجهة التحديات، إنّهنّ يعبّرنَ عن أصواتهنّ بثقة، ويحققنَ نجاحًا استثنائيًّا في هذا المجال الذي طالما كان صوت الرجال مهيمنًا عليه.
في هذا التقرير سنكون في رحلة ملهمة لاستكشاف قصص نجاح نساء يمنيات في مجال الإعلام، سنكشف الستار عن قصصهنّ الشخصية، ونتعرف على التحديات التي وجهنَها، وكيف تغلبنَ عليها بقوة وإصرار.
تعدُّ إعلاميات الزمن الجميل بمثابة قوة محركة للتغيير، تعمل هؤلاء النساء الرائدات على كسر القيود والتحديات الاجتماعية والثقافية، وتشجيع النساء على تحقيق طموحاتهنّ في عالم الإعلام، وأنّ النساء اليمنيات قادرات على تغيير العالم من خلال قوة أقلامهنّ وأصواتهنّ.
سامية العنسي؛ ترنيمة الحلم والتحديات في عالم الإعلام اليمني
كان ذلك في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وهو الوقت الذي تصفه العنسي بأنّه (الزمن الجميل)، كانت تلك المدّة تحمل البراءة والنقاء في حياة الناس؛ إذ كانوا يعيشون تحت ظلالها، كانت حياة بسيطة ومتواضعة، مع خلوها تمامًا من التفاوتات الاجتماعية، حتى في ظروف المعيشة المختلفة، كان الأولاد والبنات يلعبون معًا في الحارة، وكانت هذه اللحظات تمثل عالمهم الترفيهي الذي لم يملوا منه؛ إذ كانوا يستمتعون بألعاب بسيطة صنعوها بأنفسهم.
منذ دخولها المدرسة في الصف الأول عام 1969م، كانت سامية تهوى الإلقاء في الإذاعة المدرسية وتشارك بنشاط في تقديم فقرات الطابور الصباحي، أصبحت الإذاعة المدرسية شغفها الأول، وكانت حريصة على المشاركة في جميع المناسبات المدرسية، مثل عيد الأم والأعياد الوطنية، وكان لوالدها دور كبير في دعمها؛ إذ كتب القصائد الخاصة بتلك المناسبات.
تقول العنسي: “في الإعلام المسموع الذي يعدُّ مساحة من الإبداع والتأثير الإيجابي في تشكيل سطور الرسالة الإذاعية؛ من أجل الارتقاء بالوعي الجمعي لدى الناس، فلا شكَّ أنَّ أجملَ ما في هذه المهنة هو ذلك الاستثناء القيمي والإبداعي والأخلاقي”.
وتواصل: “والذي بممارسته يختلف بقواعده وخصائصه عن أيّ مهنة أخرى؛ لأنّ أثيره كالبريق الذي يضيء روح المتلقي وعقله وخياله، من خلال فنّ كتابة الكلمة وتقديمها، فتظلَّ هذه الحالة هي همزة الوصل بين صوت المذيع وقلب المتلقي لا تنتهي، أكان المبدع ما يزال عملًا أم توقف عن العمل”.
وتُدلّل على ذلك بالقول: “هناك من عمالقة الإعلام والكلمة مَن تركوا إرثًا إبداعيًّا موثقًا في مكتبات الإذاعة في شتَّى فنون الحياة، برغم رحيلهم، فإنّهم أثروا في الناس، وشكّلوا وجدانهم، وارتقوا بذائقتهم، لكن في النهاية يبقى للعمر كلمته في اختزال إبداع الإعلامي، من حيث وصوله لسنِّ التقاعد القانوني، وترك المجال لمن بعده، وإتاحة الفرصة لآخرين ما زالوا بأوجِّ عطاءاتهم وإبداعاتهم، وهذه هي سنة الحياة”.
خروج الإعلامية عن الإطار الصحيح، وأهم المعوقات
أما بالنسبة للمعوقات والتحديات التي واجهت الإعلامية فيما مضى، فسامية العنسي تعدُّ واحدة من مذيعات إعلام الأمس، التي نالها ما نال غيرها من الظلم والتعسف وتجاهل الحقوق، لكن يبقى الأمل حيًّا وباقيًّا بين أجواء هذه المهنة؛ لتتجاوز إعلاميات اليوم تلك التحديات التي قد لا تنال من حقها المادي فحسب، ولكن تنال من مكانتها الأدبية ورسالتها القيّمة كطرف مجتمعي له دور فاعل ومؤثر في حركة المجتمع والناس، ويمكّنها من تشكيل الرسالة الإعلامية الهادفة والجادة، بدلًا من استثمار صوتها فقط في كثير من المواد الإعلانية والتجارية.
فيما ذكرت العنسي بعض المعوقات والتحديات التي أخرجت الإعلامية اليمنية من إطارها الصحيح بالقول: “انتشار العديد من الإذاعات التجارية الهادفة للربح، وسهولة الكسب المادي من خلال استغلال ذلك التدفق اللافت لمخرجات كلية الإعلام، واللاهثة وراء الممارسة العملية للمهنة دون خبرة أو تأهيل أو معرفة حتى بأبجديات العمل الإذاعي وقواعده والمعايير الفنية والصوتية”.
وتكمل: “أيضًا غياب القدوة المهنية وخبرائها من مراكز الإدارة والقرار، والتوجيه لهذه المحطات والفضائيات، لتتصدر الرسالة الإعلامية والخارطة الإذاعية بكل موادها وبرامجها عشوائية الثقافة المجتمعية ودونية السلوك العام، التي تؤدي إلى تجهيل عقول الناس بمفاهيم سلوكية مغلوطة، وبأفكار وموضوعات بعيدة عن هموم الناس وقضاياهم الملحة التي يجب أن تخاطب أوجاعهم وتلامس معاناتهم اليومية”.
وأشارت أيضًا أنّ العديد من البرامج تحطُّ من ذائقة الناس، وتنال من ثقافتهم المجتمعية وسوية سلوكهم العام، فتتصدّر المفردات والألفاظ الخادشة لمشاعر المتلقي، وتكرّس مفردات العنف والتعنيف والمناطقية والتنمر والانتقاص من الآخر في العديد من البرامج.
وأضافت: “أيضًا الطرح الخاطئ للمشاعر والعواطف باسم الحبّ والرومانسية في برامج فئوية تستهدف شريحة الشباب، والعلاقات العاطفية بصورة مشوهة، وإفلاس واضح في طرح المعاني السامية لمثل هذه العلاقات والتجارب الحميمية التي تبثها بعض المحطات في مساحتها المسائية المتأخرة، في حين يجب أن تضعها الرسالة الإعلامية في إطارها الصحيح؛ من خلال توعية الشباب بتقديس مثل هذه المشاعر واحتوائها بما يناسب ثقافة المجتمع وخصوصيته، بدلًا من الإسفاف والابتذال”.
وترى العنسي في سياق حديثها أنّ كل هذا الإسفاف من جانب بعض المحطات نال من مكانة الإعلامية ودورها الإيجابي المؤثر تجاه مجتمعها؛ إذ حصر فكرها ومعارفها بين هذه الموضوعات والرسائل الهابطة؛ لتبقى عرضة لمثل هذا التسطيح الثقافي والفكري والإعلامي، واستغلالًا لحاجتها وظروفها، وكأنّها أمام الميكروفون -مع الأسف- سلعةٌ فقط، وأسلوب هشّ لجذب المستمع لا لإفادته.
وتتساءل العنسي بالقول: “أليس كل هذا التدني في إدراك دورها الإعلامي الرفيع إلى جانب زميلها ينال من مكانتها المعنوية في قلوب الناس؟! إلى جانب ما ذكرت، هناك أيضًا من أسباب الغبن ما جعل الإعلامية خارج محتواها الصحيح، منها تجاهل الجهات الإعلامية المسؤولة على مدى عقود من الزمن في دعم الكادر النسائي، والدفع به في اتجاه استحقاقاته المكتسبة”.
وتشير أنّ أحد التحديات هو تغييب البرامج من خارطة الإعلام المسموع والمرئي وسياساتها التي ترتقي بوعي الناس تجاه أهمية دور الإعلامية في حركة المجتمع، وعدم مؤازرتها في تجاوز نظرتهم المتحفظة تجاه التحاق المرأة في الإعلام، في وقت ما زال المجتمع تحكمه ثقافة العيب المغلوطة، وضبابية النظرة تجاه هذا العمل، وملامح العادات والتقاليد البالية التي ما زالت تراه تجرُّؤًا من المرأة في انخراطها في وسائله المختلفة.
وتؤكد العنسي أنّ أهم أسباب الغبن -أيضًا- تلك التربية الذكورية التي ما زالت تسودُ الأسرة والمجتمع بثقافتها المنتقصة لمكانة المرأة وقدراتها وإمكاناتها؛ شكّلت هذه التربية مع الأسف مواقف أصحاب القرار، ونالت من ثقتهم بها وبمقدرتها في تمكينها من مواقع قيادية حساسة في الإعلام؛ ممّا جعلها تعاني حتى اليوم من التعسف، وصمّ الآذان عن مظلوميها.
وتشير أنّ المرأة الإعلامية اليمنية تعاني من الحرمان، وعدم تمكينها من التأهيل والتخطيط للسياسات الإعلامية، سواء عن طريق المشاركات الداخلية أو الخارجية في المؤتمرات والندوات الدولية، واستبعادها من الطواقم الإعلامية الخاصة بالتغطيات والسفريات للوفود الرئاسية مهما كانت كفاءتها، وبتجاهل لافت لقواعد الإعلام العربي والدولي.
وتؤكد أنّه إذا لم يعِ القائمون على الإعلام مثل هذه التحديات المصطنعة في طريقها، والصعوبات المفتعلة أمام مسارها المهني السليم، للحد من تأثيرها الإيجابي ودورها الفاعل في تشكيل وجدان العامة ثقافيًّا وقيميًّا إلى جانب زميلها الإعلامي، فهن قد حصلن على مكانتهن وحقوقهن شرعًا، ويستطعن دائمًا مجابهة التحديات والتغلب عليها.
وختمت العنسي اللقاء بالقول: “ومن هنا ولثقتنا بأرباب الكلمة والمؤمنين بها والمستشعرين لحقها واستحقاقها أدبيًّا وماديًّا وإداريًّا، بعد هذه السنوات الطويلة لبعضهنّ اللائي عشنَ حياتهنّ الإعلامية بين الأمل والسراب، وبين الكفاءة وغبن الاستحقاق، ولأخريات من إعلاميات اليوم – أتمنى ألّا يجدنَ ما وجدتْه إعلاميات الأمس من عدم الإنصاف والمكانة اللائقة بهنّ”.
صفية العنسي أول صوت نسائي في اليمن
“بدأنا العمل في الإذاعة ونحن طالبات في المرحلة الابتدائية، كان في حفل مدرسة أروى، وهي تعدُّ أول مدرسة للبنات في تعز، وجاء فريق من الإذاعة لتسجيل الحفل، وبعد الحفل عُرض علينا أنا وبعض الزميلات للعمل في الإذاعة؛ لأن الإذاعة كانت تفتقر للصوت النسائي في ذلك الوقت، وعملوا لنا امتحانًا في الصوت واللغة”. هكذا افتتحت الإعلامية صفية حديثها عن مشوارها الأول في العمل الإذاعي.
وتواصل: “كان العمل في الإذاعة تحدّيًا، وكان له رونقٌ خاص بالنساء الملهمات، عملنا بجد وشغف خلال تلك المُدّة المتنوعة، وكان لدينا نخبة من المرشدين الرائعين الذين وفروا لنا الدعم والتوجيه، تعلمنا قواعد اللغة والتعبير، وشاركنا في برامج متنوعة تساعدنا على تنمية قدراتنا وتطوير أفكارنا”.
وعن الأشخاص الذين قدموا الدعم والثقة لصفية في بداية المشوار، تقول: “وكان لنا السعادة بالتعامل مع بعض الأساتذة الملهمين، مثل الأستاذ حسن العزي، والأستاذ عبد القادر الشيباني، والأستاذ عبد الرحمن مطهر، كانوا قدوة لنا، وأعطونا الثقة للاستمرار في هذا المجال، كما كان هناك الأختان المذيعتان المبدعتان، فاتن اليوسفي، والمرحومة رؤوفة حسن، من إذاعة صنعاء، اللتان قدمتا لنا الدعم والتشجيع”.
وتكمل: “وبدأتُ العمل كمذيعة رسمية، وأنا أحمد الله وأشكره أنّ عائلتي كانت مستنيرة ومتفهمة، فعملتْ على تشجيعي، بالرغم أنّ بقيّة العائلة البعيدين كانوا معارضين. بالمناسبة ونحن نقدّم كل أنواع البرامج، وفي وقت وزير الإعلام الأستاذ أحمد المروني يستمع إلى برنامج الأطفال الذي كنت أقدمه، قال: طفلة تقدّم برنامج أطفال! وتشجيعًا منه صرف لي مكافأة”.
وعن رحلة انتقالها من مجال الإعلام إلى مجال الطب تقول: “وكنت بالإضافة إلى عملي في المساء في الإذاعة، كنت أواصل دراستي في الصباح، وأكملتُ الإعدادية والثانوية. ورغم نجاحي في مجال الإذاعة والتشجيع الذي لاقيته من الجميع، كنت أتوق لدراسة الطب، فذهبتُ في منحة دراسية لدراسة الطب، وأنا اليوم أعمل في مجال الطب منذ (40) سنة، وقد جاء جيل من بعدنا حمل الراية؛ منهنّ الأستاذة أمة العليم السوسوة، والأستاذة سامية العنسي، وغيرهنّ ممّن نفخر ونعتز بهنّ”.
وأنهت حديثها: “وأنا في هذا السن وفي هذا الموقع، أقدّم شكري وامتناني لكل من وقف معي أو مع الزميلات اللاتي أتين من بعدي وأثبتن وجودهنّ، سواء من أُسرهن أو من الزملاء في العمل، نحن فخورات بما حققناه حتى الآن، ولكننا ما زلنا نسعى للتطوير والتحسين المستمر سواء في مجال عملي كطبيبة أو غيره. نحن ندرك أنّ الطريق ما زال طويلًا ومليئًا بالتحديات، ولكننا مصممات على مواصلة القيام بدورنا في خدمة المجتمع”.