تعدُّ ظاهرة العنف ضد المرأة والفتاة آفة عالمية تهدد حقوق الإنسان وعمليات السلام والتنمية المستدامة في المجتمعات كافة في العالم أجمع؛ إذ لا تزال قضية العنف ضد المرأة أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعًا في العالم، خاصة في المجتمعات التي تتعرض لصراعات مستمرة. فوفقًا للتقديرات الأممية لعام 2023م، أنّ 736 مليون امرأة على مستوى العالم —أي واحدة من كل ثلاث نساء تقريبًا— وقعنَ ضحايا للعنف الجسدي أو الجنسي مرة واحدة على الأقل في حياتهنّ.
ولأهمية التصدي لهذه الآفة العالمية؛ وجب تضافر الجميع، وتفعيل استجابات قوية، ومع ذلك، خصصت بعض دول العالم موارد اقتصادية ضئيلة لمكافحة هذه الظاهرة؛ إذ خُصّص ما يقارب %5 فقط من المساعدات الحكومية العالمية لمكافحة العنف ضد المرأة، في حين استُثمر أقل من %0.2 في الوقاية منه. وذلك وفقًا لتقارير دولية حديثة.
إنّ القضاء على العنف ضد المرأة يعدُّ مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الحكومات والمجتمعات المدنية والقطاع الخاص في كل بقاع العالم، لبناء عالم خالٍ من العنف والتمييز، وهذا ما تحاول القيام به العديد من دول العالم عبر تجريم العنف بشكل مباشر قانونيًّا، ومن الدول التي تسعى إلى مناهضة العنف ضد المرأة جمهورية النمسا، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من تسعة ملايين نسمة، حسب هيئة الإحصاء المركزية النمساوية لعام 2023م.
وتبرز جمهورية النمسا كنموذج رائد في جهودها لمكافحة ظاهرة العنف ضد المرأة؛ إذ هناك العديد من التضافر من مختلف الجهات المعنية للمطالبة بتدابير أكثر فعالية لحماية النساء والفتيات في النمسا، الذي سنستعرضه في هذا التقرير.
مواقف ودعوات لخطط شاملة
كشفت وكالة الأنباء النمساوية في العام 2023م، عن واقع مقلق بالنسبة لتزايد العنف الممارس ضد النساء في النمسا؛ إذ بلغ 26 حالة قتل و41 محاولة قتل للنساء، وأمام هذا الارتفاع المخيف، تُعبّر العديد من الجهات والمنظمات والأحزاب عن قلقها العميق.
فقد أصدرت الحكومة النمساوية بيانًا مشتركًا تؤكد دعمها لحملة الأمم المتحدة “العالم البرتقالي” ضد العنف على النساء، بنشر الوزيرات والوزراء والوزارات فيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن هذا الدعم، وإضاءة المستشارية الفدرالية باللون البرتقالي لمدة 16 يومًا؛ كرمز للتضامن مع ضحايا العنف، وتخصيص ميزانية تاريخية للبرامج الموجهة للنساء.
كما طالبت جمعية المنازل النسائية المستقلة في النمسا، ضرورة اتخاذ خطوات حاسمة وجذرية؛ إذ تدعو الحكومة النمساوية إلى وضع خطة شاملة لمكافحة العنف، وتخصيص ميزانية سنوية تصل إلى 250 مليون يورو لهذا الغرض، وتشمل الخطة، بحسب الجمعية، إنشاء أحياء خالية من العنف ضد الشريك، وتعيين أكثر من 3000 موظف بدوام كامل للعمل في مجال الوقاية من العنف.
من جانبها، شددت “حلقة النساء النمساوية” على ضرورة وضع إستراتيجية وطنية شاملة لمكافحة العنف ضد النساء؛ إذ طالبت بإنشاء لجنة أزمات دائمة لمعالجة حالات العنف بشكل فوري، وركزت على خطوات عملية لحماية النساء والأطفال، تشمل زيادة الإنفاق على برامج الوقاية من العنف، وتعزيز الخدمات الطبية والنفسية للضحايا، وتوفير حماية أفضل للنساء المعنفات.
اتحاد المدن في النمسا، دعا إلى حياة خالية من الخوف للنساء، وأكد على الحاجة الملحة لمزيد من مراكز الحماية من العنف، وأهمية المبادرات التوعوية للتصدي للعنف ضد النساء، كما طالب بانضمام الاتحاد الأوروبي إلى اتفاقية إسطنبول للوقاية من العنف ضد النساء والعنف المنزلي.
حملة جديدة لمكافحة العنف الأسري
في خطوة مهمة لمكافحة العنف ضد المرأة، أعلنت الحكومة النمساوية عن مضاعفة ميزانية حماية المرأة من العنف الأسري والسيبراني إلى 24 مليون يورو لعام 2023م، وتأتي هذه الزيادة في إطار جهود مكثفة لمكافحة هذه الظاهرة المتفشية، وتعزيز أمن النساء في البلاد.
وتهدف هذه الزيادة إلى تحسين رعاية الضحايا، وتسهيل ملاحقة الجناة، وتوفير معلومات واضحة وأكثر دقة حول إمكانيات الحماية المتاحة للنساء، وتقديم المشورة والدعم النفسي للضحايا.
كما أنّ هناك تعاونًا بين وزارة الداخلية النمساوية مع وزارات أخرى ومعهد أبحاث الصراعات؛ لإجراء دراسة علمية حول “جرائم قتل المرأة”؛ بهدف توفير أفضل جهود المساعدة لضحايا العنف الأسري؛ إذ تؤكد الحكومة النمساوية أنّ حماية المرأة من العنف تشكل أولوية قصوى بالنسبة لها.
دعوات لزيادة الجهود الوقائية
قد كشفت دراسة حديثة أجراها معهد أبحاث الصراع عن تطور مقلق في جرائم قتل النساء في النمسا لعام 2023م؛ ففي الوقت الذي قُتلت فيه 15 امرأة على يد رجال، أصبح الانفصال عن الشريك أحد الدوافع الرئيسية لارتكاب هذه الجرائم.
وتُشير الدراسة إلى أنّ 793 امرأة قتلنَ أو تعرضنَ لمحاولات قتل في النمسا خلال السنوات الحادية عشرة الماضية؛ الأمر الذي يدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة؛ إذ حُدّد 767 مشتبهًا بهم في هذه الجرائم، وأظهرت الدراسة أنّ بعض الجناة قاموا بقتل أكثر من امرأة واحدة.
وتثير هذه الجرائم المروعة ضد النساء في النمسا تساؤلات حول الدوافع الكامنة وراءها؛ إذ تشير الدراسة إلى أنّ الانفصال عن الشريك يعدُّ أحد الدوافع الرئيسية لارتكاب هذه الجرائم، مطالبة بزيادة الجهود الوقائية لمعالجة هذه الظاهرة، وضمان حماية أفضل للنساء في المجتمع.
النمسا تؤكد التزامها بحقوق المرأة عالميًّا
في بيانٍ بمناسبة اليوم العالمي للمرأة في مارس 2024م، شدّد وزير الخارجية النمساوي “ألكسندر شالينبيرج” على أنّ المساواة بين الجنسين تشكل حجر الزاوية في السياسة الخارجية للبلاد، وأنّ جميع المبادرات والمشاريع الإنسانية، التي تُنفذها وزارة الخارجية النمساوية، تهدف إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين النساء والفتيات.
وأكد أنّ المساواة في الحقوق والفرص بين النساء والرجال في جميع أنحاء العالم ضرورية لتحقيق السلام والتنمية المستدامة. مشيرًا إلى أنّ الأزمات المتعددة في عصرنا تظهر أنّ النساء والفتيات يتأثرنَ بشكل أكبر بالاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة؛ الأمر الذي يوجب إشراك الجميع على قدم المساواة في حل هذه التحديات العالمية.
العنف ضد المرأة في العالم لا يقتصر على العنف الجسدي والجنسي، بل هناك نوع آخَر من العنف تتعرض له النساء من جميع الفئات والأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافات المختلفة، ويشمل العنف النفسي، وسلوك السيطرة والتحكم والإذلال والمهانة؛ ممّا يترك آثارًا نفسية عميقة على الضحايا، ويشكل تهديدًا صحيًّا خطيرًا.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة للوقاية من العنف وحماية الضحايا، لا تزال هناك العديد من النساء اللواتي يعانين من صعوبة في الحصول على المساعدة المُتخصصة، خاصة في النمسا، لذلك، تقدّم شبكة مراكز الاستشارة النمساوية للنساء والفتيات، بالتعاون مع صندوق الاندماج النمساوي، خدمات استشارية مجانية بـ 17 لغة بشأن العنف ضد المرأة.
وتشمل هذه الخدمات، استشارات نفسية واجتماعية، ودعمًا قانونيًّا، وبرامج إعادة التأهيل، وغيرها من الخدمات التي تهدف إلى تسهيل حصول النساء من مختلف الجنسيات على الدعم، وتدريب المترجمين الفوريين على تقديم الاستشارات المتعلقة بالعنف ضد المرأة، وتوزيعهم على كل مقاطعات النمسا التسع في شكل وحدات.
وإلى جانب خدمات الاستشارة، يقدم صندوق الاندماج النمساوي برنامج “KOMPASS” لدعم المهاجرات المؤهلات في دخول سوق العمل، عبر تدريبهنّ مع عدة شركاء اقتصاديين لمدة ستة أشهر.
كما أُعدَّ كُتيّب “توقف! ضد العنف ضد النساء والفتيات” بسبع لغات، يقدّم معلومات حول مختلف أشكال العنف وعناوين الاتصال ونقاطه.
وتُعدّ هذه الجهود المتنوعة جزءًا من إستراتيجية شاملة لمكافحة العنف ضد المرأة في النمسا، وتعزيز حقوق النساء، وتمكينهنّ من العيش حياة كريمة خالية من العنف.
حقوق المرأة في النمسا
لا تزال المساواة بين الجنسين قضية ساخنة للنقاش في جميع أنحاء العالم، وتسعى على ضوئه العديد من الدول جاهدة لتحقيق المساواة بين الجنسين، وإعطاء المرأة حقوقها الكاملة في مختلف جوانب الحياة.
وتعدُّ جمهورية النمسا نموذجًا يُحتذى به في مجال المساواة بين الجنسين؛ بالتزامها الحكومي، ومبادراتها المتنوعة، التي تسهم بشكل فعّال في بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا للجميع.
فقد أظهرت دراسة أمريكية عام 2019م لتقييم حقوق المرأة على مستوى العالم، أنّ النمسا تحتل المرتبة 13 من بين دول الاتحاد الأوروبي في مجال المساواة بين الجنسين؛ إذ تبذل الحكومة النمساوية جهودًا حثيثة لتعزيز المساواة بين الجنسين في البلاد، عبر ضمان حصول النساء على فرص متساوية في التعليم والعمل والترقية، والمشاركة في المجال السياسي وصنع القرار.
كما تُبذِل النمسا جهودًا حثيثة لمكافحة العديد من الممارسات الضارة التي تهدد حقوق المرأة وسلامتها، مثل تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والإتجار بالنساء، وزواج القاصرات، وذلك عبر التزام النمسا منذ عام 1992م برفع سنّ الزواج القانوني للنساء إلى 18 سنة، الذي يهدف إلى القضاء على مأساة زواج الأطفال نهائيًّا بحلول عام2030 م.
تقدّم مستمر
تُعدّ النمسا من الدول الرائدة في مجال حقوق المرأة؛ إذ شهدت النمسا منذ عام2020 م زيادة ملحوظة في عدد النساء في مجلس الوزراء؛ ووصلت نسبة تمثيلهنّ إلى أعلى مستوى مقارنة بالرجال، وتضم الحكومة الائتلافية الجديدة في النمسا 17 امرأة، الأمر الذي يُثبت قدرتهنّ على القيادة، وإحداث تطورات إيجابية في جميع مجالات الحياة.
ومن جانب حقوق المرأة في العمل، فقد شهدت النمسا تقدُّمًا ملحوظًا في هذا المجال؛ إذ ارتفع معدل القوى العاملة للإناث إلى %56 منذ عام 2019م، ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة كبيرة في الأجور بين الجنسين؛ الأمر الذي جعل الحكومة النمساوية تسعى جاهدة لمعالجة هذه الفجوة، وتحقيق المساواة في الأجور بين الجنسين.
وفي المجال الاقتصادي، تتبوأ المرأة النمساوية مكانة مرموقة؛ إذ حصلت النساء على نسبة %46.4 من المناصب في الغرفة الاقتصادية الفيدرالية النمساوية مع بدايات عام 2017م، وتدير ما يقارب من 176,930 شركة في النمسا، وهذا يعدُّ رقمًا هائلاً يُظهر قدرتهنّ على القيادة وإدارة الأعمال بنجاح، كما توجد 114,184 سيدة أعمال في النمسا.
تظهر النمسا عزمها على مواصلة جهودها لتحقيق المساواة بين الجنسين، وخلق مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا للجميع، فهي تعدُّ من الدول الرائدة في مجال مكافحة العنف ضد المرأة، وتواصل بذل جهود حثيثة على مختلف المستويات لمعالجة هذه الظاهرة التي تقلق العالم بأسره.