ياسمين عبدالحفيظالمرأة في التنمية والسلام

 

 

ما تزال المرأة اليمنية تجد نفسها محاصرة بين الشعارات الرنانة التي تنادي بتحرير المرأة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وبين مجتمع ما زال يمارس حياته بعادات وتقاليد وأعراف ترفض إعطاءها الحق في كثير من أمور حياتها، حتى في الزواج.

ووسط المآسي الاجتماعية والثقافية التي تسيطر على كثير من المجتمعات اليمنية التي تُحاصر حياة المرأة، تظهر (العنوسة) كظاهرة اجتماعية إنسانية تمثل تحديًا حقيقيًا في مجتمع يتشبث بنظرته التقليدية تجاه المرأة، متمسكًا بسلطته المطلقة التي ترفض الاعتراف بها كإنسان ذات حقوق. وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على اليمن فحسب، بل تعاني منها العديد من البلدان العربية أيضًا.

لا يمكن إنكار أن المجتمع بمختلف شرائحه يتحمل مسؤولية تفشي هذه الظاهرة، عبر التمسك بعاداتٍ تمييزية بين أفراد المجتمع اليمني، مثل الغني والفقير، أو بين السيد والعادي، أو بين القَبيلي والمُزَيِّن، وغيرها من التمييزيات الطبقية والاجتماعية والثقافية التي تعزز من ظاهرة العنوسة بين الشباب والفتيات.

 

أبرز العوامل الاجتماعية والثقافية

فاقمت العديد من العوامل الاجتماعية والثقافية في اليمن من زيادة نسبة ظاهرة العنوسة بين الشباب على مراحل زمنية متعاقبة، وقد شملت تلك العوامل التقاليدَ والعاداتِ الاجتماعيةَ المتوارثة، مثل فرض مهور مرتفعة وتكاليف باهظة للاحتفالات، التي تعدُّ أحد العوائق الأساسية أمام الزواج، والأعراف القبلية في بعض المناطق اليمنية، التي تلعب دورًا كبيرًا في تحديد معايير الزواج، مثل ضرورة التزاوج داخل القبيلة أو بين العائلات الكبيرة، والفجوة بين الجنسين في التعليم، التي قد تؤدي إلى فجوة في التوقعات والمستويات التعليمية بين الجنسين، مما ينتج صعوبة التوافق الزوجي، بالإضافة إلى نظرة المجتمع للمرأة في بعض المناطق اليمنية، التي تُعدّ أقل قدرة على اتخاذ قرارات الزواج بنفسها. كما أنّ الأعراف المجتمعية تفضل الزواج المبكر للفتيات، وإذا بلغت الفتاة سنًّا معينًا فإنها تُعدّ عانسًا.

آية سليمان كغيرها من الفتيات اللاتي يحملن الرغبة والشغف لإكمال تعليمهن الجامعي، وتحقيق استقلالهن المالي من خلال الحصول على فرصة عمل تلبي طموحاتهن المستقبلية، وتمنحهن القدرة على خلق حياة كريمة لها ولأسرتها دون الاعتماد على أحد.

تعيش آية في أحد أرياف محافظة تعز مع أسرتها المكونة من والدها ووالدتها وخمسة أشقاء (ثلاثة إخوة وأختان). وهي تعد الوحيدة من عائلتها التي التحقت بالجامعة، واستطاعت كسب تشجيع أهلها على التعلم والسفر إلى المدينة للدراسة.

تقول آية: “ثقافة منطقتنا معقدة؛ إذ تُعد الفتاة التي تتعلم وتعمل منفتحة وجريئة، مما يجعل من الصعب أن يرتبط بها شاب؛ لأنها تختلط بالرجال وتسافر بمفردها. وهذا ما أعاني منه؛ فقد تقدم كثيرون لخطبة شقيقاتي، واحدة منهن ستتزوج بعد عام، والأخرى ترفض لأنها لم تجد الشخص المناسب، في حين أنا لم يتقدم لخطبتي أحد؛ لأني متعلمة وأطمح للعمل”.

وتتساءل: “ماذا يعني أن تتعلم الفتاة؟! لماذا تُحشر الفتاة المتعلمة في خانة المرفوضات للزواج؟ هل تعد المرأة غير المتعلمة أفضل في تكوين أسرة وتربية أبناء من المرأة المتعلمة؟”، ومؤكدة ضرورة وجود توعية تهدف إلى تغيير تفكير المجتمع، وتحرير النساء من الثقافات والتقاليد التي تقيدهن وتحرمهن من حقوقهن.

كما تؤكد أن هناك العديد من الفتيات اللواتي أكملن دراستهن وحققن نجاحًا في مجالات عملهن، ومع ذلك ما يزال يُنظر إليهن على أنهن غير صالحات للارتباط، وغالبًا ما يبدأ الشبان بتقديم طلبات للزواج مع شرط أن تترك الفتاة وظيفتها وتبقى في المنزل، وفي حال رفضت هذا الشرط، فإنها تعد غير مؤهلة للزواج، مما يدفع كثيرًا من الشبان للبحث عن فتيات غير متعلمات أو ممن يقبلن بشروطهم، وهذه الظاهرة تتكرر في العديد من المناطق اليمنية التي ما تزال تحكمها العادات والتقاليد.

ترى آية أن الفتاة المتعلمة في اليمن تدفع ضريبة تعليمها، ويحاصرها شبح العنوسة، ورغم هذه الضغوطات، فإن كثيرًا من الفتيات يتمسكن بتعليمهن وأخريات بوظائفهن؛ إذ يفضلن الاستقلال المالي وتحقيق طموحاتهن العالية على الزواج، والعديد منهن يطمحن إلى إكمال تعليمهن في الخارج أو فتح مشاريعهن الخاصة، وقد نجحت كثيرات في تحقيق هذه الأهداف رغم التحديات.

 

عوامل متشابكة

يرى الكاتب الصحفي عبد الواسع الفاتكي أن هناك عوامل عديدة ومتشابكة تؤثر بشكل كبير في زيادة نسبة العنوسة في اليمن، وهذه العوامل تحدد قبول من يعول الأسرة أو رفضه فيما يتعلق بارتباط الفتاة أو من يتولى أمرها. ويؤكد أن معايير الزواج قد تغيرت بشكل ملحوظ عما كانت عليه سابقًا؛ إذ اختلفت الشروط المطلوبة لتكوين أسرة.

وأشار إلى أن العنصرية والطبقية مستشرية بشكل كبير في الوقت الحاضر، فقد أصبح من الملاحظ أن الآباء والأمهات يبحثون عن الأصل الاجتماعي المتعارف عليه في المجتمع اليمني لتحديد قبولهم أو رفضهم للزواج، وهناك فئات معينة في المجتمع اليمني تُعد غير مقبولة من قبل الأسر أو القبائل، مثل فئات “الأخدام” و”المهمشين” و”الحلاقين” و”المزينات” و”الجزارين” وأولئك الذين يعملون في بيع الخضار مثل البصل والكراث. هذه الفئات تواجه حواجز اجتماعية تجعل الزواج محصورًا ضمن إطار فئات معينة، مما يؤدي إلى رفض الأسر تزويج بناتهم من هؤلاء.

ويتابع الفاتكي بالقول: “الظروف الأخيرة في المجتمع اليمني أفرزت ثقافة جديدة؛ إذ أصبح المال العامل الرئيسي والمهم جدًا في تحديد نسبة القبول أو الرفض بالنسبة للزواج، فقد أصبح ولي الأمر يركز بشكل كبير على الجانب المالي للزوج؛ إذ يُعدُّ تمكنه المالي وقدرته على توفير مستوى حياة جيد شرطًا أساسيًا للقبول”.

يواصل عبد الواسع الفاتكي حديثه عن العوامل الاجتماعية التي تسهم في زيادة نسبة العنوسة في المجتمع اليمني، مشيرًا إلى رفض المجتمع لظاهرة التعدد؛ إذ يقول: “هناك حملة كبيرة من قبل بعض النساء ضد مسألة التعدد، ويرفض الأهل والزوجة فكرة الزواج بأخرى، وفي بعض الأحيان، تضطر النساء إلى طلب الخلع، ولكن الغريب هو أنهن بعد الخلع يظللن مدّة ثم يتزوجن من رجال متزوجين”.

كما يشير إلى أن العديد من الشباب يعزفون عن الزواج بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها، بالإضافة إلى رؤية المشاكل الزوجية المنتشرة في المجتمع نتيجة لتدهور الأوضاع المادية، وهذه الظروف تؤدي إلى ظهور مشكلات بين الأزواج وعائلاتهم.

ويضيف أنّ عددًا لا بأس به من الشباب قد اكتسب ثقافة جديدة، تتمثل في البحث عن المرأة الجميلة أو المرأة الميسورة الحال، مما يوجه أنظارهم إلى فئات معينة من النساء.

ويشير إلى وجود ظاهرة العزوف عن الزواج من الموظفات؛ إذ يُعتقد أنّ الزواج من امرأة عاملة قد يتسبب في عدم الاهتمام بالحياة الزوجية، خاصة مع المشكلات التي تظهر بين الأزواج الذين تزوجوا من موظفات.

يقول الفاتكي: “العامل الاقتصادي يعدُّ مهمًا جدًا، خاصة مع الصراعات التي تشهدها البلاد وتدهور العملة، التي نتج عنها ارتفاع تكاليف الزواج بشكل باهظ، فمراسيم الزواج قد تغيرت، وأصبحت تشمل حفلات متعددة قبل يوم الزواج وبعده، مثل حفلة الخطوبة وحفلة العقد وحفلة الأزياء اليمنية، وكل هذه الحفلات ترهق كاهل الزوج بالنفقات الكبيرة”.

وأضاف: “في كثير من الأحيان، يُطلب مهر العروسة بالعملة الصعبة، ولم يعد يُدفع بالريال اليمني، وبعض الفتيات يرفضن الزواج من شاب لا يزال في بداية حياته ويرغبن في الارتباط بشاب قد خطا خطوات كبيرة نحو الاستقلال. كما أسفرت الصراعات عن مقتل العديد من الشباب وترمُّل العديد من النساء وفقدان عائلاتهن، مما أدى إلى ارتفاع نسبة العنوسة، كل هذه العوامل تؤدي إلى تأخير الزواج وظهور العنوسة بشكل كبير”.

 

القيود العائلية تمنع الزواج

“يتعرض العديد من الشباب والفتيات في اليمن لضغوطات عائلية تمنعهم من الزواج، وتتنوع أسباب هذه الضغوط التي تشمل القضايا المادية التي تتعلق بإعالة الأسر، أو الخوف من فقدان الميراث لصالح أشخاص خارج العائلة. كما يمكن أن يكون الحب الزائد من الأهل للأبناء سببًا في الخوف من زواجهم، وقد تلعب العادات والتقاليد دورًا كبيرًا في هذه الضغوط؛ إذ يُجبر بعض أولياء الأمور أبناءهم على الارتباط من داخل الأسرة، مما يدفع ببعض الأبناء إلى التمرد وعدم الزواج”. وذلك حسب ما ذكرت الناشطة المجتمعية صباح أحمد.

لم تتمكن نوال محمد (اسم مستعار) من الزواج، رغم تقدم العديد من الشباب لخطبتها؛ بسبب رفض والدها تزويجها، كونها الابنة الوحيدة في العائلة التي تتحمل مسؤوليات كبيرة في المنزل، وتغطّي الكثير من احتياجات الأسرة كونها موظفة، في حين يعمل أشقاؤها بالأجر اليومي.

تقول: “تقدم لي كثير من الشباب، لكنهم جميعًا لم يوافقوا على الشروط التعجيزية التي وضعها أبي عليهم، وهو يرفض تمامًا فكرة ارتباطي وخروجي من البيت، ورغم تدخل بعض الأقارب لإقناعه بقبول تزويجي، فإن جهودهم لم تُجدِ نفعًا”.

تضيف أنها لم تتمكن من إقناع والدها بفكرة زواجها، لذلك لم تجرؤ على التمرد أو الضغط عليه لقبول طلبها، وتقول: “أحيانًا أفكر في التمرد على ضغوطات أبي بخصوص رفضه كل من يتقدم لي، لكني حين أرى أن ذلك سيتسبب في ضررهم ماديًا، أعود وأقنع نفسي بأن عليّ التنازل من أجلهم”.

وتشير إلى أنّ مسؤولياتها تتعاظم، خاصة مع تقدّم والدتها في السنّ ومرضها؛ إذ لا تستطيع القيام بمهام البيت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تساعد والدها في مصروفات المنزل؛ لذا تخشى أن يؤثر الزواج على عملها.

 

معايير الزواج التقليدي

يقول الصحفي أسامة الكربش: “معايير الزواج التقليدي في اليمن، مثل القبيلة والأصول والانتماء العرقي والجغرافي، تشكل جزءًا من عادات قديمة وتراث اجتماعي طويل، وما تزال تلعب دورًا كبيرًا في تنظيم العلاقات الزوجية وتحديد الشريك المناسب”.

ويضيف: “تسهم هذه المعايير في كثير من الأحيان في زيادة نسبة العنوسة في المجتمع؛ إذ يعدُّ الزواج من داخل القبيلة أو العشيرة ضمانًا لاستمرار الروابط الاجتماعية، وهذا يعزز أهمية الحفاظ على نقاء النسب القبلي ويضمن القبول الاجتماعي، مما يجعل الزواج من خارج القبيلة أمرًا مرفوضًا، ويؤدي إلى تقليص فرص الزواج”.

ويتابع: “توجد أيضًا تفضيلات ونزعات مناطقية وعرقية تلعب دورًا في تحديد فرص الزواج؛ إذ يُفضل التمسك بالزواج ضمن نفس المجتمع المحلي أو الأقارب، وتؤدي هذه التفضيلات إلى فرض قيود على الزواج وخلق نوع من العزلة والانغلاق الاجتماعي، مما يقلل من فرص الزواج من خلفيات جغرافية أو عرقية مختلفة”.

ويرى الكربش أنّ التركيز الكبير على النسب العائلي، بعد تقسيم المجتمع إلى فئات مجتمعية يصعب التزاوج بينها يعزز فكرة التفوق العرقي؛ مما يعقد مسألة العثور على شريك حياة يتوافق مع هذه المعايير، ويصبح بقاء الشخص عازبًا أفضل على أن يتزوج وفقًا لهذه المعايير والتفضيلات.

 

بناء أسرة متماسكة

يؤكد الأكاديمي أمين صالح العلياني، أستاذ الأدب الحديث والنقد بجامعة لحج، أن المرأة يجب أن تؤمن بأن التعليم عامل مهم في بناء أسرة متعلمة ومتماسكة، وأن الزواج قد يكون داعمًا لاستمرارها في تحقيق طموحاتها التعليمية والوصول إلى أهدافها المنشودة. مشددًا على أن المرأة يجب أن تتخلص من الفكرة الخاطئة التي ترى الزواج عائقًا أمام التعليم، مما قد يسهم في تقليل نسبة العنوسة.

ويضيف: “يجب على المرأة أن تدرك أن الظروف الاقتصادية تتطلب الشراكة والتعاون بين الزوجين، ويجب ألا تتناسى فضل أحدهما على الآخر حين تتحقق الأهداف المشتركة”.

كما يشير إلى أن المرأة المتعلمة يجب ألّا تتخلى عن شريك حياتها الذي ساعدها في تحقيق طموحاتها، حتى لا تتحول العلاقة بعد الزواج إلى نظرة دونية إذا كان الشريك غير متعلم، فهذا التصور الخاطئ يمكن أن يؤدي إلى تردد الرجال غير المتعلمين في الارتباط بالنساء المتعلمات.

ويقول: “البحث عن شريك كامل الصفات هو فكرة مثالية وغير واقعية؛ لذا يجب على المرأة أن تتقبل فكرة تعدد الزواج في حالة عدم تحقيق الزواج الأوحد، فالحياة تقوم على الابتلاء، وقد تحقق المرأة العلم دون الزواج أو العكس”. كما يدعو الرجال إلى عدم قياس قيمة المرأة بجمالها الجسدي فقط، بل يجب التركيز على مقوماتها الأخرى مثل التعليم وقدرتها على المشاركة والبناء”.

ويشدد على أهمية عدم عدِّ تعليم المرأة نوعًا من التفاخر على الرجل، أو تهديدًا لمكانته الاجتماعية. مضيفًا: “على الرجل ألا يرى تعليم المرأة كعامل اقتصادي وحيد لإعالة الأسرة، لأن المرأة ترفض أن يُنظر إليها كوسيلة دخل دون مشاركة فعلية من الرجل، الذي يجب أن يتحمل مسؤولية الإعالة والنفقة وفقًا للقوامة”.

ويتابع العلياني قائلاً: “يجب على الرجل أن يتخلى عن الاعتقاد بأنه يجب أن يكون هو الأكثر تعليمًا في العلاقة، فالحياة الزوجية يجب أن تقوم على التعاون والبساطة، ويجب أن يعترف بأن المرأة المتعلمة هي أساس نجاح الأسرة؛ لأنها تلعب دورًا رئيسيًا في التعليم العائلي. علينا جميعًا كبح جماح الجهل وتقدير المرأة لإسهاماتها وفاعليتها، وليس فقط لمثاليتها”.