علياء محمد – المرأة في التنمية والسلام
تعدُّ ظاهرة العنوسة في اليمن من القضايا الشائعة التي تثير اهتمام الرأي العام والمجتمع اليمني، وتتنوع الآراء والأفكار بشأن أسباب هذه الظاهرة وكيفية مواجهتها؛ إذ يرى كثيرون أنّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الدخل، وتداعيات الصراع، والتغييرات الاجتماعية، والتمسك بالعادات والتقاليد المعقدة والمتوارثة في خيارات الزواج، وغيرها من الأسباب – تعدُّ العامل الرئيسي وراء انتشار العنوسة.
تتحدث (ت.ت.أ) البالغة من العمر 24 عامًا عن رغبتها في الزواج بسرعة، هربًا من الأحكام القاسية التي يفرضها المجتمع اليمني على المرأة التي تتأخر في الزواج، فهي تخشى أن يُطلق عليها لقب (عانس)، وهو الوصف الذي يُستخدم في المجتمع اليمني للإشارة إلى المرأة التي تجاوزت سن الثلاثين ولم تتزوج.
تأخُّر الزواج للفتيات يُعدُّ من القضايا الحساسة والمعقدة في المجتمع اليمني؛ إذ تواجه النساء غير المتزوجات تحديات اجتماعية كبيرة، هذه التحديات تعكس نظرة المجتمع السلبية تجاه المرأة التي لم تتزوج بعد سنّ معين، ممّا يزيد الضغط على الفتيات للزواج قبل بلوغهنّ هذا السنّ.
واقع المرأة (العانس)
في اليمن تشكل الأعراف والتقاليد دورًا رئيسيًّا في صياغة النظرة المجتمعية نحو المرأة المتأخرة عن الزواج؛ إذ يُنظر إليها على أنها (غير مرغوب فيها) أو (غير صالحة للزواج)، ممّا يضعها تحت ضغط اجتماعي كبير يؤثر سلبًا على حالتها النفسية.
أحد الأمثلة على ذلك هو منشور لإحدى الفتيات على فيسبوك تطلب فيه المساعدة في العثور على شريك للزواج، محاولةً الهروب من وصمة (العنوسة) التي يُلصقها المجتمع بالنساء اللاتي لم يتزوجنَ قبل سنّ الثلاثين؛ إذ تقول إحداهنّ: “أنا فتاة ضاقت بي الحياة وأتعرض لضغوطات؛ لأنّني عانس وفاتني القطار، ساعدوني ودلوني على خطّابات أجرّب حظي”.
هذه الحالة ليست فريدة، بل تمثل واقع مئات الفتيات في اليمن اللواتي يعانين من تعليقات سلبية وضغوط اجتماعية ونفسية. خبراء الاجتماع يؤكدون أنّ العنوسة ليست مجرد ظاهرة فردية، بل نتيجة لمجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية.
في اليمن تتأثر النظرة المجتمعية للمرأة المتأخّرة عن الزواج بعوامل متعددة تشمل العوامل الثقافية والاجتماعية، ويعدُّ تأخّر الفتاة عن الزواج وتعدّي عمر الثلاثين أمرًا غير مقبول، أو غير مرغوب فيه.
الدكتورة هناء عبد الخالق (دكتورة جامعية) توضح أنّ ثقافة المجتمع اليمني تنظر إلى الزواج كمؤشر للنضج والقبول الاجتماعي، وغالبًا ما يُنظر إلى تأخّر الزواج أنه دليل على الفشل. وتؤكد أنّ العادات والتقاليد تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل هذه النظرة؛ إذ يُنظر إلى الزواج كواجب اجتماعي يجب على المرأة تحقيقه في سنٍّ مبكرة، وإذا تأخرت عن ذلك، تظل محاطة بوصمة العار الاجتماعية التي تؤثر عليها طوال حياتها.
وتضيف هناء: “أنّ الفتيات المتأخرات عن الزواج يعانين من قلق مستمر بشأن مستقبلهنّ، وتؤثر هذه الوصمة على علاقاتهنّ الاجتماعية؛ إذ يمتنعنَ عن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والعائلية لتجنب الأسئلة المحرجة، مثل: لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟ وأصغر منك قد تزوجت وأنجبت، أمّا أنتِ فقد فاتك القطار”.
هذا الضغط المجتمعي يخلق تحديات كبيرة للنساء، ليس فقط على مستوى الزواج، بل أيضًا على مستوى الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية.
تأخّر الزواج حتميّ
قد يكون تأخّر زواج الفتاة خيارًا مفروضًا عليها وخارجًا عن إرادتها؛ بسبب عوامل اقتصادية؛ إذ تشهد اليمن أزمة اقتصادية خانقة نتيجة الصراع، ويعاني كثير من الشباب ظروفًا اقتصادية صعبة تعوق قدرتهم على تحمل تكاليف الزواج، الأمر الذي ينتج تأخيرًا في اتخاذ قرار الزواج، ونتيجة لذلك تتأثر الفتاة سلبًا بسبب هذه الأوضاع.
ويرى كثير من أبناء المجتمع أنّ تقاليد الزواج في اليمن تتطلب تكاليف مرتفعة، تشمل المهور والمناسبات المرافقة للزواج حسب العادات التي تختلف من منطقة إلى أخرى، وهذه التكاليف تشكل عبئًا كبيرًا على العائلات، وتؤدي إلى تقليص فرص الزواج.
ويرى عبد الرحمن أحمد أنّ ظاهرة غلاء المهور في اليمن تعدُّ أحد أبرز الأسباب لتأخّر الزواج لكلا الجنسين، وقد أصبحت المهور المطلوبة من الرجل مقابل الزواج في كثير من المناطق اليمنية تشكّل عبئًا عليه؛ إذ أصبح المهر في مجتمعنا اليمني نوعًا من التفاخر والتنافس بين الأسر والعائلات، وينظر لقيمة المهر مقياسًا لمكانة العائلة الاجتماعية، الأمر الذي يُسهم في فرض مبالغ إضافية يصعب على الشباب دفعها.
مضيفًا: “نتيجة الأوضاع الاقتصادية الراهنة، يفضل كثير من الشباب الانتظار حتى يتمكنوا من جمع المبالغ المطلوبة، وقد يحتاج بعضهم سنوات عديدة من أجل الحصول على المبلغ المطلوب، بالتالي يصبح المهر حاجزًا أمام الطرفين”.
كما يؤكد كثيرون أنّ البطالة تُعدُّ عاملًا مهمًا يُسهم في تأخّر الزواج بين الجنسين في اليمن، نتيجة تراجع فرص العمل وانحسار الوظائف التي أصبحت تشكل هاجسًا كبيرًا للشباب والشابات على حدٍّ سواء؛ إذ يؤثر هذا الواقع الاقتصادي سلبًا في قدرتهم على الزواج، فالشاب الذي لا يجد وظيفة أو دخلًا ثابتًا لا يتمكن من تحمل أعباء الزواج؛ مثل توفير السكن، وتغطية النفقات الأخرى المرتبطة بالزواج.
ومحدودية الفرص الوظيفية تُعدُّ أحد أبرز العوائق التي تواجه الشباب في بناء حياة مستقرة، ممّا يجعل قرار الزواج صعبًا ومؤجّلًا لدى كثيرين، وهذا الوضع يعمّق من المشكلات الاجتماعية، مثل العنوسة، ويزيد من الضغط النفسي على الشباب الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن تحقيق التوقعات المجتمعية بالزواج والاستقرار.
التأخّر عن الزواج
مع ارتفاع مستوى التعليم والوعي في المجتمع اليمني، بدأت تتغير بعض المفاهيم التقليدية المتعلقة بالزواج، وأصبحت ردود الفعل تجاه الزواج المتأخر أكثر تنوعًا، وترى العديد من الفتيات اليمنيات أنّ التأخر عن الزواج أمر طبيعي ومقبول، وقد يكون التأخّر عن الزواج خيارًا واعيًا من قبل المرأة ذاتها، ويغذي ذلك حالة الاستقلالية والتعليم، والنضج، والتفكير العميق قبل اتخاذ قرار الزواج السريع وفقًا للمعايير الاجتماعية التقليدية.
تقول الدكتورة زمزم صالح (أستاذة الإدارة والتخطيط): “في مجتمعنا اليمني غالبًا ما ينظر إلى تأخّر زواج المرأة من منظور سلبي؛ إذ يُطلق عليها وصف (عانس)، وكأنّ هذا التأخر يمثل عيبًا أو فشلًا”.
مضيفة: “بالرغم أنّ إطلاق المجتمع لفظ (عانس) على من تأخرت في الزواج، فإنني لم أواجه هذه التسمية بشكل مباشر، ربما لأنّ مظهري لا يوحي بالعمر، أو لأنني لم أتبع المسار التقليدي الذي يتوقعه المجتمع، ومع ذلك، فإنّ النظرة السائدة تجاه المرأة التي تأخرت في الزواج لا تزال تحمل في طياتها كثيرًا من الأحكام المسبقة، إذ يُنظر إليها أحيانًا على أنها متطلِّبة، أو متعجرفة، أو حتى معقدة”.
وأوضحت أنّ تأخر الزواج لا يعني بالضرورة فشلًا أو نقصًا في حياة المرأة، بل قد يكون في الواقع دليلًا على وعيٍ عالٍ ونضج شخصي واستقلالية. وتؤكد أنّ المجتمعات المتقدمة تقيّم نجاح المرأة بما تحققه في مجال عملها وعلمها، وليس فقط بناءً على حالتها الاجتماعية أو وضعها الزوجي.
فيما يتعلق بتأخرها في الزواج، تشير زمزم إلى أنّ هذا التأخير كان قرارًا مدروسًا وناجحًا، نابعًا من رغبتها في تحقيق طموحاتها الأكاديمية والمهنية.
وتقول: “منذ بداية مسيرتي الدراسية، وضعت نصب عينيّ تحقيق أعلى الدرجات العلمية، وصولًا إلى مرحلة الدكتوراه، ولقد كانت سنوات من العمل الجاد والتفاني، ولم يكن من السهل الموازنة بين طموحاتي والزواج، وبعد الحصول على الدكتوراه، أسست مؤسسة خاصة بالبحث العلمي، وهو إنجاز أشعر بالفخر به، وأرى أنه كان يستحق التضحية”.
وتؤكد في حديثها أهمية تغيير النظرة النمطية للمرأة المتأخرة عن الزواج، وإعادة النظر في مقاييس النجاح والإنجاز، والاعتراف بأنّ لكل امرأة الحق في تحديد أولوياتها، واختيار المسار الذي يناسبها في الحياة، سواء أكان ذلك في سن مبكرة أم متأخرة.
من جانب آخر تقول فاطمة العولقي (ناشطة مجتمعية): “كان موضوع تأخّر الفتاة عن الزواج موضوعًا يحمل في طياته كثيرًا من الرفض المجتمعي، ولكن الآن اختلف الوضع، فمع توفر الفرص المتاحة والناجحة للمرأة، ومع زيادة مستوى الوعي لدى كثير من النساء، أصبح خيار الزواج قرارًا مدروسًا ومحسوبًا من النواحي كافة”.
مضيفة: “من الضروري أن نفهم أنّ قرار الزواج لا ينبغي أن يُنظر إليه كهدف بحدِّ ذاته، بل يجب أن يُبنى على أسس متينة من الاحترام والتفاهم المتبادل بين الطرفين، وهذا الأمر لن يتحقق بعدم وجود معاير تضعها المرأة قبل الزواج، لضمان بناء علاقة ناجحة قائمة على توافق القيم والاهتمامات بين الشريكين”.
وتوضح: “أنّ الفتيات اللواتي لديهنّ طموحات أو اهتمامات خاصة يواجهنَ صعوبة أكبر في العثور على شريك الحياة، يتفهم ويدعم هذه الجوانب من شخصيتهنّ. ففي كثير من الأحيان، قد يكون الشخص المتقدم للزواج غير مسؤول، وغير مثقف، أو غير مهتم بما تهتم به المرأة، مما يجعل العلاقة غير متوازنة، وتؤدي إلى الفشل. ولهذا السبب، تفضل العديد من الفتيات تأخير الزواج بدلًا من الارتباط بشخص غير مناسب، لأنّهنّ يعلمنَ أنّ الزواج الناجح يتطلب شريكًا يتفهم طموحاتهنّ ويشاركهنّ قيمهنّ”.
تظل النظرة السلبية تجاه الفتيات المتأخرات عن الزواج في المجتمع قابلة للتغيير تدريجيًّا، لكن ذلك يتطلب جهودًا مشتركة من جميع الأطراف المعنية، ومن المهم خلق بيئة تدعم الفتيات في اتخاذ قراراتهنّ واختياراتهنّ الشخصية بحرية وثقة، سواء أكانت تلك القرارات تتعلق بالزواج أم بمسارات حياتهنّ الأخرى.
هذا يتطلب تغييرات على مستوى الثقافة الاجتماعية، والتعليم، ورفع الوعي بشأن أهمية الاحترام لخيارات الأفراد وحقهم في تحديد مساراتهم، وعن طريق الحوار المفتوح، وتعزيز القيم الإيجابية، يمكن للمجتمع أن يدعم الفتيات في تحقيق طموحاتهنّ وتطلعاتهنّ، ممّا يساعد على تقليل الضغوط الاجتماعية، ويعزز من فرصهنّ في النجاح الشخصي والمهني.