حنان حسينالمرأة في التنمية والسلام

 

إنّ ظاهرة العنوسة في اليمن ليست مجرد نتيجة خيارات شخصية، بل تعد نتيجة تفاعل معقد لعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية. وهي تحتاج إلى تفهم أعمق وسياسات مجتمعية تهدف إلى تخفيف الضغوط عن الشباب والفتيات المقبلين على الزواج. وبعض النساء والشباب قد يختارون تأجيل الزواج لتحقيق أهدافهم الشخصية والمهنية، إلا أن النظرة المجتمعية لتأخر الزواج تظل سلبية في كثير من الأحيان؛ إذ يُطلق على النساء غير المتزوجات لقب (عانس)، وهو مصطلح يحمل طابعًا سلبيًا.

 

الخطاب المجتمعي اليمني

مصطلحات مثل (عانس) و(بائرة) تُستخدم في المجتمع اليمني، كما في مجتمعات أخرى، للإشارة إلى المرأة التي تأخر زواجها عن العمر المتعارف عليه اجتماعيًّا، على الرغم من أنه لا يوجد سن محدد يعد معيارًا لـــ(فوات القطار) كما يُقال؛ لأن هذا المفهوم نسبي، ويختلف بين المناطق والثقافات، فهناك من يفوتها القطار في العقد الثاني أو في الثلاثينات أو في الأربعينيات.

الدكتور محمود البكاري (أستاذ علم الاجتماع) يوضح أن العنوسة كمصطلح اجتماعي يعني تأخر سن الزواج للفتاة عن الموعد الطبيعي، وتجاوزه إلى مرحلة عمرية تهدد وتقلل من إمكانية أن تحظى الفتاة بفرصة الزواج، والدخول في مرحلة اليأس والإحباط، ليس فقط لدى الفتاة، بل أيضًا لدى أسرتها، التي قد تشعر بضرورة القبول بأي عرض زواج بغض النظر عن ملاءمة الشخص المتقدم.

وتشير فاطمة بلعجم (مرشدة أسرية) إلى أن مفهوم (عانس) قد تغيَّر بشكل ملحوظ في السنوات العشر الأخيرة؛ إذ أصبحت الفتاة التي تتجاوز سن الـ25، والشاب الذي يتجاوز سن الـ30، يُنظر إليهم على أنهم (عوانس)، رغم تحفظها على استخدام هذا المصطلح.

من جهة أخرى، يرى الدكتور محمد عمر (متخصص في علم النفس) أن مفهوم (العنوسة) يعتمد بشكل كبير على الثقافة والقيم العرفية للمجتمع. وفي المجتمع اليمني، يرى أنّ المرأة التي تجاوزت سن الخامسة والعشرين، أو حتى في بعض المناطق التي تتبنى معايير أكثر تحفظًا، من تجاوزت سن الثانية والعشرين، قد فاتها قطار الزواج وفقًا لهذه المعايير.

 

عوامل تأخُّر الزواج 

يذكر الدكتور محمود البكاري عدة عوامل تسهم في تفشي ظاهرة العنوسة في اليمن، وتتفاوت هذه الأسباب من منطقة إلى أخرى. وهي تتضمن العوامل الاجتماعية التي تحتل المرتبة الأولى؛ كونها تتعلق بالعادات والأعراف الاجتماعية التي تُصعّب الزواج، وهناك العديد من الشروط الاجتماعية الصريحة والضمنية التي تقف عائقًا أمام الزواج، مثل الفوارق الاجتماعية بين الأسر وقضية النسب والميراث.

ويردف: “وهناك الأسباب الاقتصادية المتمثلة بالفقر، والبطالة، وعدم قدرة الشباب على توفير تكاليف الزواج وبناء الأسرة، وتحمل نفقات الحياة الزوجية، ثم العوامل الثقافية المتمثلة بتفضيل الزواج بين الأقارب ومنع الزواج من خارج الأسرة في بعض المناطق، وأحيانًا المفاخرة بارتفاع تكاليف الزواج والبذخ، وغيرها من العوامل”.

 

وعي منخفض

بشأن وعي المجتمع بالتأثير السلبي لتلك العوامل على الفتيات والشباب المقبلين على الزواج، تؤكد فاطمة بلعجم أنه لا يوجد وعي كافٍ لدى بعض أفراد المجتمع اليمني في منح الفتاة أو الشاب الدعم الكافي لاستكمال دراستهم أو تحقيق طموحاتهم التعليمية دون فرض ضغوط نفسية عليهم.

وتوضح أنه على الرغم من أن المجتمع قد يشجع الفتاة في البداية على مواصلة تعليمها والوصول إلى مراتب علمية عالية، مثل الحصول على درجة الدكتوراه، فإنه يعود ليضغط عليها نفسيًّا عند تأخر زواجها، فتُواجه الفتاة الانتقادات والتعيير بسبب تقدمها في السن دون زواج، وتُطلق عليها ألقاب مثل (عانس)، دون مراعاة للظروف التي قد تكون خارجة عن إرادتها، وحالت دون زواجها.

قوة الشخصية بوصفها عائقًا!

كذلك من الأسباب التي تؤخر زواج الفتيات، حسب تصريح فاطمة، قوة شخصية الفتاة وتعليمها، قائلة: “أغلب الرجال لا يرغبون في الزواج من فتاة متعلمة ولديها معرفة بحقوقها؛ إذ يقول والد إحدى الشباب إنه سيزوج ابنه بفتاة صغيرة في السن، يستطيع تشكيلها ويجعلها مطيعة له. ومع ذلك نجد هذا الأب نفسه لديه فتيات يحرص على تعليمهنّ وتدريسهنّ، فيما يرفض تزويج ابنه من فتاة متعلمة”.

ويوضح محمد عمر أن العوامل الاقتصادية في جميع البلدان، وعلى رأسها اليمن، تعد الدافع الأساسي وراء تأخر الزواج، والعزوف عنه؛ فبسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، ترتفع تكاليف الزواج وتبعاته بشكل جنوني، ومن ثمَّ يمر الوقت وتتأخر الفتيات عن زواجهنّ حسب الأعراف والقوانين المجتمعية المعقدة.

ويصرح أحد المختصين النفسيين (فضل عدم ذكر اسمه) لصحيفة (المرأة في التنمية والسلام) أن أحد الأسباب النفسية التي تؤدي إلى العزوف عن الزواج في اليمن هو التأثر الكبير بالمسلسلات ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن الشباب -من كلا الجنسين- يتأثرون بالصورة المثالية للعلاقات، فبالنسبة للشاب، قد يبحث عن فتاة تشبه البطلة التي تابعها وأحبها على الشاشة. وبالنسبة للفتاة، قد تنتظر (الفارس على الحصان الأبيض) الذي سيحقق كل أحلامها، وترفض بذلك المتقدمين الذين قد لا يحققون هذه المعايير المثالية.

 

نظرة سائدة

محمد عمر يوضح أن النظرة الثقافية المجتمعية السلبية تجاه الفتيات اللواتي يتجاوزن سن الخامسة والعشرين تؤكد أنها غير صالحة للزواج، ويشير إلى أن هذه الفكرة تتعارض مع الحقائق الجسدية والنفسية؛ إذ إن الفتيات يكتسبن النضج مع تقدمهن في السن ويزددن فهمًا وإدراكًا، لكن الأساليب التربوية والقيم المجتمعية تلعبان دورًا كبيرًا في تشكيل هذه النظرة.

ويضيف: “هناك فكرة مغلوطة أن الرجل لا يمكن أن يكون سعيدًا مع امرأة تكبره سنًا، وبالتالي يفضل الزواج من فتاة أصغر سنًا، ويتصور أنها ستنمو على قيمه وسلوكياته؛ فالفتاة الكبيرة كلما كبرت أظهرت معالم استقلال شخصيتها فتكون مناهضة لسلوكياته ومعتقداته، وهذه النظرة تؤدي إلى نفور بعض الرجال من الفتيات الأكبر سنًا”.

 

وجهة نظر قانونية

المحامي جمال الجعمي يقول: “معدل الإنجاب في اليمن من أعلى المعدلات في الإقليم، وبالتالي الحديث عن العنوسة أو الزواج المبكر هو نوع من الموضوعات المغايرة للواقع الاجتماعي. وإذا أتيحت فرصة للمهتمين بالإعلام سنجد أن الحديث عن العنوسة وخطرها المتزايد ليس إلا مبالغة موجودة في كل المجتمعات العربية والإسلامية المحافِظة، وسبَّب علاقة غير متكافئة بين الرجل والمرأة، وإلا لما كان الحديث عن العنوسة مرتبط بالمرأة فقط، بمعنى أن الرجل أيضًا يمكن أن يكون (عانسًا)، ومع ذلك لا تجد من يتحدث عنه. وتعد العنوسة ظاهرة متفشية وربما خطيرة”.

ويضيف: “القانون يشجع على الزواج المبكر، لكن نعود إلى أن العنوسة والطلاق علاقات تنجح أو تفشل لظروفها الخاصة، والنظرة المختلفة في منطقتنا تعود إلى كون العنوسة مثل الطلاق يجعل المرأة دون عائل؛ وهذه نظرة قاصرة ترى أن الزواج ستر والعنوسة عار، فيما الحقيقة أن المرأة المستقلة والمعتمدة على نفسها يمكن أن تكون متزوجة أو غير متزوجة دون أن يؤثر على حياتها”.

 

تأثير الصراع

الدكتور البكاري يتحدث من وجهة نظره قائلًا: “نجد أن للنزاعات والصراعات تأثيرًا سلبيًا على كل مجالات الحياة، ومنها قدرة الشباب على الزواج وبناء مستقبلهم؛ فقد يتوقف الشباب عن التعليم اضطرارًا، ومن ثمَّ تتوقف فرص التنمية وبرامجها ومشاريعها في كل المجالات؛ وهذا بدوره يضاعف من نسبة العنوسة في المجتمع”.

فاطمة كان لها وجهة نظر في هذا التأثير، قائلة: “تسبب الصراع في زيادة معدلات النزوح في العديد من المحافظات اليمنية، وهذا ينتج انعدامَ الاستقرار المجتمعي، وكثير من الأسر حصل فيها شرخ عائلي، فمثلًا عندما ينزح الخاطب مع عائلته إلى منطقة أخرى تضطر أسرة الفتاة إلى فسخ الخطبة”.

بالنسبة لنتائج طول مدة العزوبية على المرأة، تتحدث فاطمة بلجعم، قائله: “من الآثار السلبية الناتجة عن ظاهرة العنوسة الضغوط النفسية التي تؤدي إلى حالات من الاكتئاب والعزلة، فعندما يجد الفرد نفسه في وضع يختلف عن أقرانه الذين أصبحوا آباءً وأمهات، يمكن أن يشعر بضغط متزايد، ويزيد الأمر سوءًا نظرة المجتمع وكلام الناس، فيصبحون شخصيات مهزوزة وضعيفة”.

وتُشير بلعجم إلى أن هذه الشخصيات قد تحتاج إلى علاج نفسي مكثف، وإلى دعم من الأقارب والأصدقاء، فالتأثير السلبي للكلمات، مثل مصطلح (العانس)، يمكن أن يكون مؤلمًا للغاية، ويجب العمل على تجنب استخدامها.

من جانبه يبين محمد عمر أن الآثار النفسية كبيرة، فكلما كبر الإنسان قلّت أمامه فرص الارتباط، وزادت حاجته إلى رفقة وأولاد لرعايته، وهذا يؤثر عليه نفسيًا. إضافة إلى شعوره بالعجز أمام نظرة المجتمع التي تُشعره بأنه غير مرغوب به، وباللهجة العامية (منتهي الصلاحية)؛ فهذه النظرة تعمل على هز شخصيته، وتجعله عدائيًا ومتجنبًا لمن حوله.

ويضيف: “تخلق حالة الضعف والإحساس بالنبذ تصرفات تؤكد على التمرد في وجهة المجتمع والعادات والتقاليد والأعراف، فتظهر بعض الانحرافات أو الانفتاح المغلوط، بل قد تسعى بعض الفتيات بدافع الحسد إلى تخريب بيوت الأشخاص من حولها لإحساسها بالنقص. لكن من ناحية أخرى نجد بعضهم يأخذ الجانب الإيجابي، ويسعى نحو تحقيق أهدافه الإيجابية عبر النجاح في العمل والدراسة”.

 

العنصرية المقيتة

يتحدث محمد عمر عن تأثير النزاعات المستمرة في اليمن على البعد الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ تعوق هذه النزاعات الشبابَ عن التقدم للزواج. كما يشير إلى أن الفتيات القاصرات قد يتعرضن لفقدان أزواجهن بسبب هذه النزاعات، مما يجعلهن أرامل في سن مبكرة. بالإضافة إلى ذلك، يعاني المجتمع من مشاكل عنصرية في الزواج؛ إذ تُفضل بعض الأسر الزواج من أبناء العائلات التي تنتمي إلى طبقات اجتماعية معينة، مما يعوق فرص الزواج للجميع، ويؤدي إلى تأخرهم في “اللحاق بقطار القفص الذهبي”.

 

المعالجات

الدكتور البكاري يتحدث من وجهة نظره عن أهم المقترحات، قائلًا: “يجب أن يعي المجتمع بضرورة تيسير الزواج وأهميته، وأن تكون هناك مبادرات مجتمعية للتخلص من العادات والتقاليد الاجتماعية السلبية، ومنع تكرارها، ومنها ظاهرة غلاء المهور التي تحوِّل الفتاة إلى سلعة، كما يحب تقديم المساعدة اللازمة للمُعسرين ومساعدتهم على إكمال نصف دينهم”.

فاطمة بلعجم توضح أن هناك عدة مقترحات للتخفيف من الضغوطات المجتمعية على غير المتزوجين، منها التوعية المجتمعية بأهمية تعليم المرأة وقيمتها في المجتمع، وأن الفتاة لا يعيبها أن تكون بمستوى دراسي أعلى منه ولا ينقص منه، إضافة إلى تسهيل تكاليف الزواج، وتبسيط مراسم الأعراس، والتوعية بأهمية تقديم الدعم النفسي من قبل الأسرة والمجتمع لمن تأخر عن سن الزواج، وتقديم النصح للشباب بقدسية الحياة الزوجية وترغيبهم فيها لا ترهيبهم منها.

كما اقترح المختص النفسي محمد عمر أن علاج هذا الموضوع لا يكون فقط بالنصح أو التوجيه، وإنما لا بدَّ أن تقوم الجهات المعنية بالإشراف على هذا الأمر إشرافًا مباشرًا عن طريق صنع لجان تتكون من علماء الدين، ومختصي الخدمة الاجتماعية، وعلماء النفس، ومن لهم صلة بهذا المجال؛ لوضع خطط شاملة كاملة للقضاء على هذه الظاهرة عن طريق التوعية والإشراف على المناطق والمدن التي تكثر فيها النزاعات، أو دعوة الأهالي في التجمعات العامة، مثل خطبة الجمعة، ووسائل التواصل الاجتماعي لتيسير الزواج، وتوعية المجتمع بأن تجاوز الفتاة لعمر معين لا يعني أنها فقدت قيمتها.