هبة محمدالمرأة في التنمية والسلام

 

أدّى تدهور الوضع الاقتصادي في اليمن في السنوات العشر الماضية بفعل الصراع المستمر إلى ظهور تأثيرات واسعة النطاق على مختلف جوانب حياة المواطنين، بما في ذلك التأثير على الظواهر الاجتماعية، مثل ارتفاع نسبة العنوسة، وذلك نتيجة عدة عوامل؛ أهمها زيادة نسبة البطالة، وانعدام الدخل لدى الشباب، مما يجعل الاستقلال المادي وتكوين أسرة أصبح أمرًا صعبًا للكثيرين منهم.

ومن العوامل الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدل العنوسة في اليمن ارتفاع تكاليف الزواج، وتدني الأجور التي تعد غير كافية لتلبية احتياجات الحياة اليومية، وتدهور العملة المحلية وارتفاع الأسعار بشكل عام؛ مما أثر على القوة الشرائية لليمنيين، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الاقتصادي العام سواء من حيث الوظائف أو توفير الفرص الاقتصادية.

في المجمل، تشكل هذه العوامل عقبات كبيرة أمام الشباب في اليمن لتكوين أسرة من خلال الزواج، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة العنوسة وتعقيد المشهد الاجتماعي في البلاد.

 

اقتصاد العنوسة

يقول الدكتور أحمد شماخ (خبير اقتصادي): “الفقر والحاجة المتزايدة في اليمن يمثلان مشكلة كبيرة تؤثر بشكل عميق على حياة كثير من الأسر، مما يجعلها غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية مثل الطعام، والمأوى، والرعاية الصحية، وهذا الوضع يزيد من الضغوط على الأسر، وغالبًا ما ينتج عن هذه الضغوط انقسامات داخل الأسرة”.

وأكد أنه في ظل التحدّيات الاقتصادية الكبيرة التي تواجه اليمن، بالإضافة إلى استمرار الصراع المسلح الدائر منذ ما يقارب عشر سنوات، يتزايد معدل العنوسة بشكل ملحوظ، وهذا أمر يجعل الشباب يترددون عن البدء بمشروع الزواج، نظرًا للتحديات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية التي يواجهونها، بما في ذلك الشروط القاسية التي يفرضها الأهل عليهم.

وأوضح شماخ أنه وفقًا لبحوث علمية (عربية ودولية) يمكن إرجاع ظاهرة “تأخّر سن الزواج” في العالم العربي إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها التحديات الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها الشباب، ونسبة البطالة المتزايدة عامًا بعد عام، بالإضافة إلى تغير الأولويات لدى كل من الذكور والإناث، وارتفاع نسب الانفصال والطلاق في العديد من الدول العربية التي تولد حالة من الحذر والتردد بين الشباب.

ويتعاظم هذا الارتفاع الكبير للعنوسة في اليمن مع آخر مؤشرات وتقديرات جهاز الإحصاء في اليمن في عام 2014؛ إذ أكد أن عدد النساء اللواتي لم يتزوجن بعد تجاوز مليوني فتاة، من بينهن أكثر من نصف مليون امرأة تجاوزن سنّ الثلاثين.

وأكد شماخ أن الوضع الاقتصادي الصعب في اليمن، الذي يتدهور بشكل مستمر، يشكل تحديًا رئيسيًا يواجه الشباب الراغبين في الزواج وتكوين أسرة، فالأوضاع الاقتصادية المتردية تركت العديد منهم عاجزين عن تأمين مستلزمات الزواج الأساسية، مما أدى إلى زيادة الفجوة بينهم وبين تكوين حياة أسرية مستقرة.

فيما تشير أحلام محمد -الباحثة في مجال الأسرة- إلى أن التطورات الحديثة، أفرزت تباينات جديدة بين أولويات الشباب والفتيات؛ إذ أصبحت الفتاة في بعض المناطق اليمنية تتمتع بالاستقلالية الاقتصادية، وتمتلك وظيفة أو مشروعًا خاصًا بها، وتتميز برؤية خاصة في تحديد مصير حياتها، وتحقيق النجاح الشخصي، كما يعد تأخير الزواج بالنسبة لها وسيلة لتحقيق ذاتها.

 

إحصائيات

ظاهرة تأخر الزواج، أو عدمه، في اليمن تعدُّ من التحديات الاجتماعية الكبيرة، وتفاقمها مرتبط بعدة عوامل، منها الأوضاع الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تمر بها البلاد. وغياب الاستقرار، وارتفاع تكاليف الزواج، وعدم توفر فرص العمل، قد تكون من الأسباب الرئيسية لزيادة أعداد الفتيات غير المتزوجات.

ووفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء عام 2009م، فإن عدد الفتيات اليمنيات اللواتي لم يتزوجن في اليمن وصل إلى ما يقارب مليونين ونصف المليون، وهو رقم يشير إلى وجود مشكلة تحتاج إلى معالجة.

كما ذكرت تقارير صحفية أخرى أن تقريرًا دوليًا صدر في بداية العام 2016م أشار إلى أن اليمن تحتل المرتبة التاسعة عربيًا في نسبة عدم زواج الفتيات اللاتي تجاوزن سن الثلاثين، بنسبة بلغت 30%.

وفي تقرير لمركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (CSRGULF) لعام 2022م بشأن تأخر سن الزواج والعنوسة وتفاقمها بين النساء العربيات، بما في ذلك اليمنيات، ذكر أن اليمن جاءت في المرتبة الـ 14 عربيًا في العنوسة، بنسبة تقديرية تتجاوز 30%.

 

حساسية العنوسة

وأشار الدكتور محمود البكاري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، إلى عدم وجود إحصائيات حديثة رسمية تبين معدلات العنوسة في اليمن؛ كون هذه الظاهرة الاجتماعية تعد من الأمور الحساسة التي لا يقبل المجتمع أن يعطي بيانات عنها، لكنها ظاهرة مرتفعة بشكل كبير ومقلقة؛ لأنها تدمر حياة الشباب الذكور والإناث، وهي لا تصيب الفتاة فقط بل يعاني منها الذكور أيضًا؛ لأنها تُعبِّر عن عدم قدرة الشباب على التقدم للزواج وتكوين أسرة.

ويقول البكاري: “تعاني اليمن حاليًا من أوضاع إنسانية كارثية وصعبة للغاية؛ إذ يعتمد أكثر من 76٪ من سكانها على المساعدات الإنسانية نتيجة الأزمة الناجمة عن الصراع المستمر في البلاد والتدهور الاقتصادي، وهذا الوضع ينعكس بشدة على واقع النساء والفتيات في اليمن، وفيها تحتاج ما يقارب 4.6 مليون امرأة و5.5 مليون فتاة إلى دعم ومساعدة عاجلة”.

 

بين الفقر والزواج

“الحقيقة أن هناك تناسبًا عكسيًا بين زيادة معدل الفقر والبطالة والأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبين ارتفاع تكاليف الزواج بشكل هستيري ومبالغ فيه؛ ففي الوقت الذي يفترض أن يكون هناك تسهيل لعملية الزواج بما يتناسب مع الظروف الاقتصادية الصعبة، فإننا نجد في الواقع زيادة في طلبات الزواج من مهر وتكاليف أخرى تفوق قدرة الشباب المقبل على الزواج، وتحول دون تحقيق هدف الشباب في بناء أسرة”، بحسب الدكتور البكاري.

ويضيف: “أن ارتفاع تكاليف الزواج يجعل حياة الأسرة بعد الزواج بائسة، بسبب استنفاد كل ما لديها من مال في الزواج. بمعنى أن تكاليف الزواج الباهظة تكون على حساب متطلبات الحياة الزوجية والمعيشية، فتزداد أعباء الحياة الزوجية، وربما يؤدي ذلك إلى حدوث مشاكل بين الزوجين قد تؤدي إلى الطلاق، والسبب يعود إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بشكل عام”.

من جهتها تشير الدكتورة إيمان عبد الملك باصيد، أستاذة الخدمة الاجتماعية جامعة المستقبل، إلى أن الظروف الاقتصادية تؤثر بشكل كبير على قرارات الزواج؛ إذ يجد الشباب أنفسهم في مواجهة تحديات كبيرة لتوفير متطلبات الحفلات والأعراس التي تزداد يومًا بعد يوم، مما يجعل الأمور تصبح أكثر تعقيدًا وصعوبة، خاصة مع ارتفاع تكاليف المهور بشكل مستمر.

ولفتت إلى أنه في الماضي كانت الأمور بسيطة وميسرة؛ إذ كان العرس ينجز بشكل بسيط ومتواضع، في حين اليوم تبدأ التكاليف الضخمة منذ إعلان الخطوبة وحتى يوم الزفاف، ويصبح على الشباب تحمل تكاليف باهظة تجعلهم يترددون في الزواج، أو يفكرون في الاغتراب كوسيلة سهلة لهم لتوفير التكاليف التي تكون هاجسًا يؤرق تفكيرهم.

 

 البطالة وضعف الأجور

يواجه العديد من الشباب صعوبة في العثور على عمل بعد سنوات عدة من نيل الشهادة الجامعية، مما يؤدي إلى تأخرهم في اتخاذ قرار الزواج. وعلى الرغم من أن الرجال قد لا يرون التأخر في الزواج عيبًا في حال بلوغهم الأربعين، خاصة إذا كان لديهم نضج عقلي وقدرة على تحمل المسؤولية وتكوين أسرة، فإن الحصول على وظيفة ليس الشرط الوحيد للزواج، ولكن بالمقابل بلوغ الأربعين دون زواج بالنسبة للفتاة يعد عيبًا مجتمعيًا.

تقول باصيد: “البطالة وضعف الأجور يعززان من معدلات العنوسة في اليمن؛ إذ يجد الشباب صعوبة في توفير المال اللازم لبدء حياة زوجية مستقرة، وهذا يضعهم في مواجهة تحديات اقتصادية كبيرة، تتمثل في زيادة تكاليف الزواج التي تصل إلى مستويات خيالية، مما يجعل الشباب يعجزون عن مجرد التفكير في الارتباط بسبب الالتزامات المالية الضخمة التي تنتظرهم”.

يقول الشاب (عمر) الذي يبلغ من العمر 35عامًا: “تعد تكاليف الزواج مرتفعة للغاية، خاصة في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية والكمالية، خاصة في ظل هذه الظروف، التي نجد أنفسنا مضطرين للانتظار لمدّة طويلة، حتى نتمكن من جمع المال اللازم للزواج؛ فهل يجب على الشباب الانتظار لسنوات إضافية حتى يصلوا إلى الخمسين أو الستين من أعمارهم ليحققوا فكرة الزواج بكل يسر؟!”.

أوضح عمر أنه يحلم بالزواج من الفتاة التي يحبها، إلا أن ظروفه الاقتصادية حالت بينه وبين تحقيق حلمه، فقد كان يعمل في إحدى المنظمات المحلية براتب بسيط، يحاول من خلاله توفير لقمة العيش لأسرته، وبعد إغلاقها بسبب ظروف الصراع لم يجد فرصة عمل أخرى، فقد وصل به الحال إلى إلغاء فكرة الزواج نهائيًا.

أما (مروان علي) فشاب يبلغ 40 عامًا، خسر وظيفته في أحد المصانع الخاصة، ولذلك قرر تأجيل حفل زفافه بشكل مؤقت، وتحوّلت تلك القرارات المؤلمة إلى مصدر كبير لإحباطه؛ إذ لم يعد بإمكانه تحمل تكاليف الزواج والمهر الذي يبلغ مليونين وخمسمائة ألف ريال يمني، وتجهيز شقته الخاصة كما كان يأمل.

وأوضح أن ارتفاع تكاليف الزواج يشكل عقبة كبيرة أمام الشباب الراغبين في الزواج، مما يدفع العديد منهم إلى تأجيل هذه الخطوة الكبيرة في حياتهم؛ وهذا بدوره يزيد من نسبة العزوف عن الزواج لدى الشباب في اليمن، ويسهم في ارتفاع معدلات العنوسة بين الجنسين في المجتمع.

فيما يقول الشاب (علي سعيد) الذي يدخل عامه 35 دون زواج: “منذ سنوات طويلة، لم أجد فرصة عمل ثابتة، وأعتمد على المساعدات التي تأتي لأسرتي من المنظمات، أو على بعض الأعمال التي أقوم بها بين الحين والآخر، فكيف يمكنني توفير المهر، وتكاليف العرس، أو تلبية احتياجات عائلتي في الوقت نفسه؟! هذا السؤال يشغل تفكيري يوميًا”.

ويكمل: “فيما أنا في حيرة من أمري، هناك العديد من الشبان يلغون خطوبتهم بسبب ارتفاع تكاليف المهور التي تزيد مع ارتفاع سعر الصرف بين الحين والآخر، والتي يفرضها أولياء الأمور بحجة أن سعر الذهب ارتفع عما قبل، أو سعر الملابس والتجهيزات الأخرى، مما يجعل الزواج مهمة شبه مستحيلة بالنسبة للعديد من الشباب في المجتمع، خاصة مع استمرار الوضع الراهن”.

 

حلول ومعالجات

تقول الدكتورة باصيد: “لحل مشكلة ارتفاع معدلات العنوسة، سواء بين الرجال أو النساء، وتقديم حل دائم، يجب التركيز على توفير فرص العمل للشباب، ورفع مستوى الدخل لديهم. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق تكثيف جهود الجهات المعنية، والمؤسسات المجتمعية والخاصة، لخلق فرص عمل جديدة للشباب، سواء عبر دعم ريادة الأعمال أو توفير برامج تدريبية مهنية وفنية وتقنية تهدف إلى تأهيلهم لسوق العمل”.

وأضافت: “كما يجب رفع مستوى الأجور للشباب، لضمان قدرتهم على تحمل تكاليف الزواج والحياة الزوجية بشكل عام، وتوفير برامج دعم مالي وتمويل للشباب الراغبين في الزواج، سواء عبر قروض بشروط ميسرة إسلامية، أو من خلال برامج دعم مالي غير ربحية من قبل مؤسسة مالية أو بنك. وينبغي تحسين جودة التعليم والتدريب لدى الشباب؛ لزيادة فرصهم في الحصول على وظائف جيدة تساعدهم على بناء حياة زوجية مستقرة”.

كما شددت على ضرورة التوعية بأهمية اتخاذ قرارات الزواج بشكل مدروس ومبني على الاستقرار المالي، والقدرة على تحمل المسؤوليات الزوجية، وتجنب الأعراس الجماعية التي تفتقر إلى القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للعروسين بعد الزواج، والتركيز بدلًا من ذلك على بناء علاقات زوجية مستدامة ومبنية على الاحترام والتفاهم.

فيما أكد المختص الاجتماعي البكاري على ضرورة تخفيض تكاليف الزواج، من مهورٍ ومتطلبات أخرى كالأثاث وقاعات الأفراح والمجوهرات والملابس … إلخ من قبل الأهل، والاقتصار على ما هو ضروري، وتأجيل الكماليات إلى ما بعد الزواج، وتيسير الأوضاع الاقتصادية خاصة للشباب والفتيات، فليس شرطًا أن يتم توفير كل الطلبات قبل الزواج؛ إذ هناك الكثير منها ما هو قابل للتأجيل.

ويضيف أن هذا يتطلب تحمل المجتمع لمسئوليته، والتخلص من العادات والتقاليد الاجتماعية التقليدية والمغلوطة، ونشر الوعي بأهمية تيسير الزواج في أوساط المجتمع، وأيضًا العمل على توفير فرص عمل للشباب ليتمكنوا من الزواج وتحمل مسؤولية تكوين أسرة.

في المجمل، وصل الصراع المستمر في اليمن إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية، مما أدى إلى تدهور الوضع المعيشي على كل الأصعدة، والكثير من الشباب أصبحوا ينشغلون بالبحث عن لقمة العيش أو النزوح، الأمر الذي يؤدي إلى تأجيل الزواج.

كما أن العديد من التقارير بينت أن فكرة التعدد في الزوجات يعد حلًا تقليديًا يعتقد بعضهم أنه يمكن أن يخفف من ظاهرة العنوسة في اليمن، لكن تأثيره الفعلي يعتمد على عدة عوامل اقتصادية واجتماعية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وقد لا يكون التعدد حلًا فعالًا للجميع، إذا لم تتوفر الظروف المادية اللازمة لتحقيق العدالة بين الزوجات وتوفير حياة كريمة لجميع أفراد الأسرة.