المرأة في التنمية والسلام – حنين الوحش

استيقظت (ه. ق) على صوت رنين أجهزة كهرومغناطيسية، تفتح عينيها ببطء مقاومةً الأضواء التي تغزوها، تلتفت إلى يمينها لتكتشف أنها في غرفة العناية المركزة، تجاهد لاستعادة ذاكرتها فكان آخر حدث تذكرته بكاء طفليها في حضنها فيما جسدها يرشح بالحمى مع انقباضات شديدة في الصدر والأحشاء، وعلى الأرض علبة سم فارغة.

كان هذا في إحدى ليالي رمضان من العام 2019م؛ إذ تقول: “ما يمزقني الآن هو العناق الأخير لطفليّ ونظرة الاستجداء التي لم تمنعْني من تناول السم، ولم أستطع محوها من الذاكرة”.

 

الانتحار.. نقطة في طريق العنف

تحتفظ (ه. ق) في كتفها بغرزة مقص، قالت إنها طعنة تلقتها من يد زوجها قبل شهر من محاولة انتحارها بالسم. “ذلك المساء نشب خلاف بيننا؛ فقد كان الأطفال يبكون فيما هو نائم ولم أستطع إسكاتهم، طلب مني إخراجهم خارج المنزل في عز الظهيرة فرفضت. وفي الوقت ذاته كنت أعمل على رتق ثوب جارتي لقاء مبلغ يسير، لم يكن يريدني أن أعمل أو أغادر المنزل ولم يكن مهتمًا لاحتياجات الأطفال من الغذاء” تقول (ه. ق) بمرارة.

حدقت إلى الأرض لتتابع سرد الأحداث: “فجأة شعرت به يقف بجانبي وكفه ملتف حول عنقي، وحين حاولت إبعاده لألوذ بالهرب أخذ المقص من جواري وغرزه في كتفي، شتمني ومزق ثوب الجارة”. هرعت (ه. ق) إلى منزل والدها طلبًا للنجاة، ورفضت العودة إلى زوجها.

“أتى زوجي إلى أبي ومعه عاقل الحي. وكل ما فعله أبي أن طلب منه كتابة التزام خطي بعدم التعرض لي بالضرب. قال أبي إنه فعل هذا إرضاء لعاقل الحي ونصحني بالعودة مع زوجي ”لكيلا أدمر بيتي“”، هكذا قالت.

وتتابع: “شعرت أنني وحيدة”، وحين سألناها عن رأي إخوتها قالت: “أخي الأكبر مسافر خارج البلد وعليه أعباء كثيرة؛ فهو يعيل أسرة أبي وزوجته وأطفاله؛ لهذا لم أستطع اللجوء إليه. أما أخي الأصغر فما يزال طالبًا في المدرسة”.

عادت (ه. ق) إلى منزل زوجها، واجتهدت لكي تضع بداية جديدة لعلاقتهما. وبحسب حديثها: “توقف عن ضربي، لكنني لم أسلم من شتائمه. حاولت حثه على البحث عن عمل، وحينها بدأت الشكوك تساوره، أخذ مني هاتفي وقال إن عليّ استخدام هاتفه إذا أردت التواصل بأحد من أهلي”.

تتصفح يدها بينما تتحدث إلينا، تتنهد بحسرة قبل أن تتابع: “كان يغلق الباب بقفل خارجي حين يخرج للبحث عن عمل، واستمر يفعل هذا بعد ذلك. وحين أخبرت والدي قال لي حاولي أن تستعيدي ثقته بك”.

تنتمي (ه. ق) إلى أحد أرياف مدينة تعز، وانتقلت مع زوجها للعيش في المدينة بعد حصوله على عمل هناك. وتباعدت المسافة بينها وبين والديها اللذين يعيشان في الريف، وامتدت المسافة إلى تسع ساعات بعد نشوب النزاع المسلح وانسداد الطرق الرئيسية. تقول: “انعدمت كل الطرق وبقيت أسيرة المنزل. عاد زوجي إلى ضربي على أقل خلاف يحدث، خاصة حين ينزعج من أصوات طفليه. فكرت كثيرًا بالانتحار، وحين فقدت صبري لم يكن أمامي سوى سم الحشرات الذي كنا نرشه في زوايا البيت”. خلطت (ه. ق) مسحوق سم الحشرات مع الماء وتجرعته، عدا أن المقدار لم يكن كافيًا لقتلها.

“فقدتُ الوعي، فنقلني زوجي إلى المشفى وتركني هناك واتصل بأبي وأخبره أنني حاولت الانتحار. لم يأتِ أبي لزيارتي، وانتظر حتى تماثلت للشفاء فأرسل لي أحد معارفه لنقلي إلى الريف. وهناك طلبت الطلاق وساعدني أخي في انتزاع هذا الحق”، تقول (ه. ق).

تعيش (ه. ق) اليوم في عدن برفقة أخيها الذي عاد من الغربة وأنشأ لنفسه مشروعًا تجاريًا هناك، وصارت تعمل معه في المشروع، بوظيفة محاسبة مالية. تحاول استعادة ثقتها بنفسها بعد سيطرة مشاعر النقص عليها. تعبر عن نفسها بالقول: “درست المحاسبة في معهد الخنساء في تعز قبل زواجي، وبعد الزواج منعني زوجي من البحث عن أي فرصة عمل. كنت أرى زميلاتي في العمل وبقيت أنا رهينة الشعور بالنقص”.

 

لم تنتهِ القصة

ساعدتنا (ه. ق) في الوصول إلى نساء كثيرات يعشن تداعيات نفسية خطيرة جراء ما يتعرضن له من عنف أسري. جميعهن اشترطن عدم ذكر أسمائهن؛ حرصًا على سلامتهن، من بينهن نساء يعشن تحت تأثير الاكتئاب المزمن، ولم يستطعن اللجوء إلى أطباء نفسيين؛ إذ يعد هذا عيبًا في الوسط المجتمعي.

تواصلنا مع الأخصائي النفسي أنور حمود، ونقلنا إليه كثيرًا من القصص التي واجهتنا وطلبنا منه النصح، ليجيب بالآتي: “التداعيات النفسية التي يسببها العنف كاضطرابات القلق والأرق ومحاولات الانتحار لا يمكن حلها بعلاجٍ ما إذا لم يصاحبه جلسات علاج نفسي تستمر لأشهر على الأقل”.

ويضيف: “تستقبل العيادات النفسية أسبوعيًا عددًا من النساء اللاتي أودت بهن آثار الصدمات إلى الجنون ومحاولات انتحار فاشلة، وهن لا يصلن إلينا إلا بعد مرورهن بعدد ممن يدعون العلاج بالرقية الشرعية؛ إذ تعتقد أسرهن أنهن أصبن بلوثة شيطانية؛ وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا. ولهذا تتوقف زيارات المرضى عند الجلسة الثانية ويقطعون تواصلهم معنا”.

وبحسب أنور تمتلئ المشافي بالنساء اللاتي يعتقدن أنهن مصابات بمشاكل عصبية في القولون والمعدة، وفي الحقيقة أن هذه المشاكل العضوية ليست سوى إسقاطات وانعكاسات لضغوط نفسية يخضعن لها إلى وقت طويل.

 

غياب الإحصائيات

يقول أنور حمود: “الوصول إلى إحصائيات حقيقية ودقيقة لأعداد النساء المعرضات للعنف الأسري، أمر صعب المنال في مجتمع منغلق؛ فمجتمعنا لا يعيب تعرض النساء للعنف لكنه يعيب تداعياته النفسية؛ لذا فإن 90% من النساء لا يصلن إلى العلاج النفسي رغم حاجتهن الماسة إليه، ورغم تداعياته الخطيرة على الأسرة نفسها وعلى أجيال بأكملها، على أساس أن تربية الأطفال هي الوظيفة الأولى للنساء”.

 

الطبيبة النفسية وفاء سعد تؤكد قائلة: “أغلب المشكلات الزوجية والأسرية التي وصلتني إلى العيادة مبنية في الأساس على تنشئة قاسية. فإن لم يكن العنف جسديًا فإنه في الأغلب نفسيٌ، وهذا ولَّد عند كثير من النساء اضطرابات نفسية، كالخوف والقلق والاكتئاب، إلى جانب تدني تقدير الذات لديهن”.

تقترح الدكتورة وفاء سعد بأنه يجب أن تكون في المدارس الثانوية مادة دراسية تسمى “التربية الأسرية” يوضح المصطلحات والمفاهيم والآليات الصحيحة التي تُبنى عليها الأسرة. وتؤكد أن أغلب صور العنف الأسري يكون بين الزوجين؛ لذا فإن هناك أهمية ملحة لإنشاء مكاتب استشارية للمقبلين على الزواج؛ لتفادي المشكلات والتخفيف من حدتها، والتعريف بكيفية التعامل معها بطرق سليمة.

you might also like