حنين الوحشالمرأة في التنمية والسلام

يعلق، منذ سنوات قليلة في ذهن كاتبة هذا التقرير، مشهد بطولي لفتاة عشرينية كانت على وشك التعرض للاعتداء من قبل أحد الشباب الخارجين عن الأدب والذوق العام؛ إذ لم يتوقف عن ملاحقتها في أروقة إحدى الحدائق العامة ويستبق خطاه بالكلام المسيء قبل أن تلتفت له بنظرة متحدية ومحذرة. اقترب الشاب منها أكثر، متجاوزًا حدود اللياقة؛ لتُمْسِكَهُ على الفور من تلابيب قميصه، وبحركة خاطفة تلقيه على الأرض مستندة على ساقها، ثم دون التفات للخلف مضت في طريقها بخطى هادئة وملامح غاضبة.

تقدمت من الفتاة وأعطيتها رقم هاتفي وأخبرتها أنني على استعداد لتقديم شهادتي للشرطة إذا تطلب الأمر، ورافقتها إلى البوابة الخارجية ونحن نتبادل أطراف الكلام.

الفتاة تدعى سارة محمد (اسم مستعار)، أخبرتني أنها تتدرب منذ طفولتها في معهد للفنون القتالية في صنعاء وتحترف “الكونغ فو” ولطالما وفرت لها مهارتها هذه الحماية التي تحتاجها في التعامل مع هذه المواقف. ومما قالته لي على نحو سريع: “ربما يعتقد الشباب أن الفتاة التي تهتم بتفاصيل زينتها وتمشي كاشفة للوجه امرأة سهلة، وتبحث عمن ينجذب لها، فيما هم بحاجة لمن يلقنهم دروسًا قاسية في الأدب”.

 

البداية

بدأ الحديث عن ضرورة تعلم المرأة للمهارات القتالية في وقت مبكر؛ إذ ترجعه مصادر تاريخية إلى مطلع القرن العشرين مع ظهور ما سمي حينها بـ”أسلوب لاتسون” للدفاع عن النفس للنساء، الذي طورته الأمريكي “ويليم لاتسون” عام 1906.

 

وتُرجع مصادر تاريخية إلى أن الاهتمام بالرياضة النسائية في اليمن بدأ في الفترة التي تلت الاستقلال 1967؛ إذ تم تأسيس بعض الفرق النسائية في مختلف الألعاب الرياضية، غير أن السجلات الرسمية لا تحتفظ بأي تاريخ محدد لبدء تدشين الرياضة القتالية للمرأة في اليمن.

وظلت الرياضة في اليمن حكرًا على الرجل طوال عقود، خصوصًا في القطاع العام، كما أن توجُّه القطاع الخاص نحو إنشاء أندية رياضية نسائية أتى متأخرًا.

تقول الرياضية هبة ياسين: “كنت أول لاعبة جودو في اليمن؛ فقد التحقت باللعبة في العام 1999م، قبل أن أصبح عضوة في اتحاد الجودو اليمني. غير أنني -من حينها- لم ألحظ تغيُّرًا في نظرة المجتمع ناحية الفتاة التي تمارس هذه الألعاب”.

وتشير هبة إلى أن التحاقها بلعبة الجودو كان من أجل الرياضة نفسها بوصفها غذاء للروح والعقل والجسد، والوسيلة الأنسب لتعزيز الثقة بالذات. وتؤكد أن الدفاع عن النفس تحت أي ظرف يأتي من بين أسباب أخرى شجعت الفتاة على الالتحاق بالرياضة والتمرن على الألعاب والفنون القتالية.

 

محاذير وقيود مغلوطة

تؤكد نتائج الاستطلاع الميداني الذي أجريناه أن المحاذير والقيود المجتمعية والفهم المغلوط للرياضة كوظيفة ومهارة، وإبقائها حكرًا على الأولاد هو ما حد من تطور الرياضة النسائية في اليمن، وأبقاها في حدودها الدنيا، رغم ما حصدته المرأة الرياضية من جوائز عالمية في كل مرة يكتب لها المشاركة.

يقول خالد النواري -أمين عام الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي-: “الارتقاء بالرياضة النسائية في اليمن يتطلب ثورة تصحيحية للمفاهيم السلبية التي تقيد مشاركة المرأة، رغم امتلاكها لقدرات عالية تفوقت بها على الرجل في قطاع الرياضة سواء في عملها كرياضية أو إدارية أو فنية”. مؤكدًا أن التجارب تثبت تفوُّق المرأة على الرجل في ألعاب مختلفة، مثل الجودو وتنس الطاولة والمبارزة، وأن حضور النساء يتنامى في الوقت الحالي بشكل متسارع.

ويضيف: “الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي منحت النساء فرصًا كبيرة للالتحاق بالعمل الإعلامي الرياضي، ليصل عدد عضوات الجمعية إلى 60 إعلامية رياضية ممن يزاولن مهنة الإعلام، ويعد ذلك تقدمًا ملحوظًا مقارنة بالأعوام السابقة، إذ كان حضور المرأة في الإعلام الرياضي لا يتعدى الأصابع”.

 

إهمالٌ وشِّحةُ إمكانيات

بدأت ليلى مراد نشاطها الرياضي من المنزل قبل أن تلتحق بأحد الأندية المحلية لتكون متدربة، ومن ثم مُدرِّبة لينتهي بها المطاف إلى صالة خاصة لممارسة لعبة كرة الطائرة، ومع دخول الصراع عامه الأول، تعرض قطاع الرياضة بشكل عام لشلل كلي، ومعه توقفت الأندية الرياضية في محافظة تعز عن فتح أبوابها.

وقد دفع الشلل الذي أصاب قطاع الرياضة النسائية وإن كان قطاعًا خاصًا، ليلى مراد للعودة إلى المنزل، وهناك تراجع اهتمامها الرياضي عما كان عليه، لتبدأ بانشغالات أخرى طارئة؛ كحاجة أسرتها لرغيف الخبز بعد انقطاع رواتب القطاع التربوي الذي يعمل فيه والدها.

تشير قصة ليلى إلى أن غياب الدعم الرسمي لرياضة المرأة يجعل البداية الذاتية لهذا القطاع أسرع خفوتًا؛ فما يبدأ بدعم أسري ينتهي في دائرة المتطلبات الأسرية، وهو ما تؤكده نتائج استطلاع الفتيات الرياضيات، إذ تؤكد 99% منهن أنهن لم يحصلن على أي دعم حكومي، ويقتصر حضورهن الرياضي على الدعم المقدم من أسرهن.

من جانبها تقول هبة ياسين: “قضى الصراع المسلح على البنية التحتية البسيطة والناشئة لقطاع الرياضة النسائي، ومن ذلك تعرض بعض الصالات الرياضية للتدمير وخلوّ بعضها من الأدوات المخصصة للتمرن”. مؤكدة أن اتحاد رياضة المرأة اقتصر نشاطه بعد النزاع المسلح على تقديم الدعم المتعلق بالمشاركات في البطولات الخارجية، وإن بصورة أكثر شحة عما كان عليه واقع الحال سابقًا. وهي تضع إعادة تفعيل فروع للاتحاد في المحافظات في مقدمة الحلول والمعالجات الممكنة؛ لخلق ثقافة رياضية لدى المرأة والمجتمع، كما تشدد على ضرورة توفير صالات رياضية مجهزة بالأدوات ودعمها فنيًا وماليًا.

 

البدء من المدراس

ترى هبة ياسين أن من الأهمية بمكان تدشين حملات توعوية في المدارس بشأن أهمية الرياضة بشكل عام للفتيات والفنون القتالية في تعزيز الحماية.

وعلى الرغم من أن مصادر عدة تشير إلى أن الرياضية النسائية بدأت كحصة مدرسية، غير أن حضورها تراجع مؤخرًا على نحو سريع، بحسب تأكيد مروى العريقي أستاذة الأنشطة في إحدى مدارس البنات.

وتتفق مروى مع ما أشارت إليه هبة ياسين بشأن ضرورة توعية فتيات المدارس بالرياضة، غير أنها تذهب إلى اقتراح إنشاء صالات رياضية في مدارس الفتيات، بوصفها الطريقة الأنجح لتفعيل قطاع الرياضة النسائية في اليمن.

 

نجاحات دولية

تحتفظ الذاكرة الرياضية في اليمن بعدد غير قليل من الرياضيَّات اللواتي حققن نجاحًا كبيرًا على الصعيدين المحلي والدولي، ليتجاوزن بذلك حدود القمع التي كرستها التقاليد المغلوطة رغم عدم وجود أي تشريع ديني يمنع النساء من مزاولة حقهن في الرياضة.

ويستدل خالد النواري بعدد من الرياضيات الناجحات، بينهن ندى الأهدل، وهي لاعبة مبارزة يمنية استطاعت المشاركة في أكثر من منافسة محلية ودولية، ولم يكن آخرها مشاركتها في دورة الألعاب الآسيوية التاسعة عشرة التي نظمتها الصين نهاية عام 2023، التي تعد الدورة الأضخم في تاريخ الألعاب الآسيوية. شارك في دورة الألعاب الآسيوية بنسختها التاسعة عشرة عددٌ من الرياضيات اليمنيات منهن لاعبة الجودو أروى آل ياس، وسماح الشامي ضمن لاعبات منتخب المبارزة.

لطالما أثارت ممارسة النساء للفنون القتالية جدلاً واسعاً في المجتمع اليمني، تراوحت الآراء فيه بين مؤيد ومعارض؛ فهناك من يرى أن هذه الرياضات تفقد المرأة أنوثتها وتضفي عليها صفات رجولية، بينما يرى آخرون أنها تعزز ثقتها بنفسها وتكسبها مهارات مهمة للدفاع عن النفس.

 

you might also like