هبة محمد – المرأة في التنمية والسلام
في أرض الشتات والهجرة، تنسجم قصص نساء الشتات اليمنيات كنغمات متناغمة في سيمفونية البحث عن الهوية والاستقرار، وتتجلى الآراء والتحليلات للمستهدفين والأكاديميين حول كيف أثر الشتات على النساء في مختلف الجوانب، مما يفتح أُفقًا جديدًا لفهم هذه الظاهرة من زوايا متعددة.
تاريخ الشتات اليمني يعكس مسارات متشعبة من الهجرة والتحديات؛ إذ تتعرض المرأة لتأثيرات عميقة تنبثق من حياتها اليومية.
وبين أسباب الهجرة العديدة هناك تحديات متنوعة تواجه المرأة اليمنية في بلاد الغربة، منها صعوبة الاندماج، وتحديات اللغة والعمل، وتحديات اجتماعية ونفسية ترافقها على مدى الزمن. ومع كل تحدٍّ تظهر فرص جديدة تُعزز قدرات المرأة اليمنية على تحقيق طموحاتها وتجاوز الصعاب.
تأملات في تاريخ الهجرة اليمنية
باهتمام متزايد، استقبل المهتمون بشؤون اليمن التحديات المرتبطة بظاهرة الهجرة؛ إذ سعوا إلى فحص العلاقات المتشابكة بين تدفق الهجرة اليمنية وتغيرات البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت خلفية المجتمع اليمني على مر العصور، ولم يكن الهدف الرئيسي من هذا الجهد هو إعادة كتابة تاريخ الهجرة بشموله الكامل، بل كان التركيز على تتبع الأثر والتأثير بما يمكن من البيان السريع للأحداث المذكورة سابقًا، التي تمثل جزءًا من هذا التاريخ المعقد بلا شك.
تقول الأكاديمية والكاتبة الدكتورة إلهام مانع: “قبل العصور الإسلامية، شهدت الحضارات والممالك القديمة التي كانت تعمر جنوب الجزيرة العربية وتثريها، تراجعًا وتدهورًا اقتصاديًّا، بسبب استبدال طرق التجارة البرية وقوافلها، التي كانت شريان الحياة الاقتصادية حينها بالطرق البحرية، إضافة إلى تزامن ذلك مع مدّة النزاعات الكبرى التي دامت ثلاثمائة عام، كل هذا أدّى إلى موجات هجرة كبيرة خارج اليمن”.
وتتابع: “بعد بدء الدولة الإسلامية في حملاتها العسكرية، بدأت موجة جديدة من الهجرة من اليمن، فقد فعل اليمنيون ما يفعله كثيرون اليوم عندما يواجهون الاضطرابات السياسية وانعدام الفرص الاقتصادية ألَا وهو الهجرة، ولأنهم كانوا معروفين بمهاراتهم القتالية العالية، أصبحوا مصدرًا عزيزًا للقوة البشرية لصراعات الدولة الإسلامية في نزاعات الفتح، هذا أيضًا انعكس على مزيد من التدهور الاقتصادي داخل اليمن بسبب غياب القوة العاملة في المناطق الزراعية”.
وعن تاريخ بدء الهجرة في عدن، أفادت مانع أنه في مدّة الاستعمار البريطاني شهدت المدينة موجة عكسية من الهجرة، ففي عام 1839م، كانت عدن تتألف من منطقة خصبة لصيد الأسماك، وكان إجمالي عدد سكانها أقل من 1000 نسمة، وعلى مر السنين ومع توسعها وتحولها إلى مركز تجاري وبحري نشط، ازداد عدد السكان، ممّا أدّى إلى جذب المهاجرين من المناطق المحيطة بها، وبحلول عام 1950م وصل عدد السكان إلى ما يقارب 100000 نسمة، من خلال الهجرة من المحمية واليمن الشمالي (خاصة اليمن الأسفل) وأرض الصومال والهند، وحضرموت، ولأنها كانت معروفة أيضًا بعلاقاتها التجارية وهجراتها إلى ماليزيا وإندونيسيا انعكس الأمر على التنوع الثقافي والإنساني فيها.
وأشارت أيضًا أنّه في التاريخ الحديث، شهدت اليمن موجات من الهجرات إلى الخارج، خاصة بعد استقلال جنوب البلاد، وقيام الجمهورية في الشمال، وتأثير النزاعات التي كانت قائمة في العراق عام 1990، وتداعيات الموقف اليمني، الذي أدّى إلى هجرة عكسية، بعد العودة المفاجئة للمغتربين اليمنيين من دول الخليج.
من جهتها أيضًا تقول الدكتورة آمنة محسن العبد (سفيرة النوايا الحسنة للسلام العالمي): “عبر عصورٍ مختلفة، تجسدت الهجرة كسمة أساسية لشعب اليمن؛ إذ اشتهر اليمنيون برحلاتهم التاريخية نحو أقاصي العالم ووصلوا إلى بقاع متعددة من الكرة الأرضية، سواء في أقطار القارات القديمة مثل آسيا وأفريقيا وأوروبا، أو في الأقطار الجديدة كأمريكا الشمالية والجنوبية. ولعبت الجغرافيا اليمنية دورًا حيويًّا في تاريخ هجرتهم، متأثرة بتداخل التحولات الجغرافية البشرية والاقتصادية والطبيعية، من تقلبات سياسية وموجات جفاف، إلى انكماش المساحات الزراعية”.
وتتفق في الرأي مع مانع وترى أنه في العصر الحديث ارتفعت نسبة الهجرة اليمنية بشكل كبير خلال القرن العشرين، خاصة باتجاه أمريكا وبريطانيا، وتأثرت هذه الهجرة بتفاعل الأنماط الإنتاجية الرأسمالية؛ ممّا أدّى إلى تراجع الصناعات الحرفية اليمنية، وزيادة معدلات البطالة، وهذا الواقع دفع بالمواطنين اليمنيين لاستكشاف مستقبل جديد خارج حدود بلادهم. ورغم ظهور قطاعات حديثة في المدن الرئيسية، فإنّ الهجرة استمرت نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية المعقدة التي شهدتها اليمن.
وعن الفئات الأكثر تأثرًا بتاريخ الشتات اليمني، أوضحت العبد أنّ الهجرة تؤثر بشكل كبير على النساء وأطفالهن؛ إذ يعاني الأطفال من عدم الالتحاق بالتعليم، خاصة في المراحل العليا، نتيجة للانتقالات المتكررة وظروف الحياة غير المستقرة، بالإضافة إلى ذلك، تعاني النساء من اضطرابات نفسية واجتماعية نتيجة لفقدان الأمان والثبات، وتواجه صعوبات في الحصول على الخدمات الطبية والنفسية الضرورية، كما تفتقر إلى مراكز الإيواء والدعم القانوني، والمكاتب التي تساعد في قضايا اليمنيين المهاجرين وتقديم الدعم والمساعدة لهم.
تأثير الهجرة على النساء اليمنيات
تقول الدكتورة فالنتينا عبد الكريم (القائم بأعمال رئيسة اتحاد نساء اليمن- عدن): “هناك تأثير كبير للهجرة على النساء اليمنيات من الناحية النفسية والاجتماعية؛ بُعدهنّ عن وطنهنّ وبيوتهنّ قد يسبب لهنّ الشعور بالحرمان من الأمان والاستقرار، ويؤجج وجع الغربة في قلوبهنّ من جميع النواحي، كما أنّهنّ قد يضطررنَ إلى تحمل قسوة العيش بعيدًا عن أهاليهنّ وأنشطتهنّ المعتادة”.
وتشير إلى أنّ هناك بعض النساء اللاتي يستغلنَ هذه الفرصة لإيصال صوت بلدهنّ إلى العالم، فهنّ يسلطنَ الضوء على النزاعات الدائرة في اليمن والآلاف من الضحايا من الرجال والنساء والأطفال، ويتمنى الجميع أن تستغل هؤلاء النساء وجودهنّ خارج الوطن ليدافعنَ بقوة عن بلدهنّ وشعبهنّ المنكوب، وأن يناشدنَ المجتمع الدولي للمساعدة في إنقاذ اليمن من هذه الصراعات المدمّرة.
وتشير مانع في سياق حديثها إلى أنّ النساء اليمنيات يتحملنَ أعباء الهجرة، سواء كانت داخلية أو خارجية، لكنهنّ مَن يحافظنَ على سلامة مجتمعاتهنّ المحلية ويتولينَ رعاية أسرهنّ بسبب النزاعات. وتضيف: “أنّ المناطق اليمنية التي هاجر فيها الرجال؛ بسبب الصراع أو بحثًا عن فرص عمل خارجية، أصبحت المرأة هي المعيل الأساسي لأسرتها، وخرجت إلى سوق العمل”.
وتؤكد مانع أنّ الاستجابة الإنسانية في اليمن أوجدت فرص عمل جديدة للنساء، في حين تم توظيف بعض النساء في قوات الأمن لدى أطراف النزاع، كما دُفعت النساء اليمنيات إلى العمل البدني غير الرسمي بأجور زهيدة مثل العمل المنزلي، في حين أُجبرت أخريات على اللجوء إلى آليات سلبية للتكيف مع الوضع، مثل التسول، وممارسة أفعال غير أخلاقية من أجل البقاء.
واقع المرأة في بيئات الشتات
“أوضاع المرأة اليمنية في الهجرة إلى خارج اليمن تختلف باختلاف مستويات تعليمهنّ، وأوضاعهنّ الاقتصادية، ومقدرتهنّ على التكيف مع الواقع الجديد، هناك كثير من النخب اليمنية النسوية اضطرت إلى ترك اليمن بسبب ملاحقتهنّ من بعض أطراف النزاع، وقد مررنَ بظروف نفسية صعبة نتيجة الفقدان والانفصال عن الأهل والوطن، والصعوبة الأولية التي واجهتها هذه النخبة عملية الاندماج في مجتمعات جديدة وشعورهنّ بالعزلة، لكن معظمهنّ، تمكّنّ من النهوض من جديد، وأصبحنَ قوة يمنية فاعلة، يعملنَ في بلدانهنّ المضيفة من أجل اليمن، ومن أجل سلام مستدام فيها”، حسب مانع.
ترى مانع أيضًا أنّ أبرز الظروف التي تجبر النساء اليمنيات على مغادرة بلدهنّ والبحث عن حياة أفضل خارجه هي أوضاع النزاعات، وفقدان المقدرة على تأمين حياة كريمة في بلدهنّ، وعدم الأمان، وملاحقة السلطات القائمة في مناطقهنّ؛ بسبب نشاطهنّ الحقوقي أو السياسي، وتضييق إمكانيات العمل والحركة خاصة في مناطق النزاع.
إحصائيات
وفقًا لبيانات بوابة الهجرة العالمية توجد تقارير رسمية وإحصائيات توضح واقع المرأة اليمنية المهاجرة في مختلف دول العالم، وحسب التقارير بلغ عدد المهاجرين الدوليين في جميع أنحاء العالم – أي الأشخاص المقيمين في بلد غير بلدهم الأم – 272 مليون شخص، مقارنة بـ 258 مليونًا في عام 2017م، وقد شكلت المهاجرات 48% من هذا العدد.
تحديات
تذكر الدكتورة العبد أبرز التحديات التي واجهتها خارج اليمن وتعاني منها كثير من اليمنيات المتربعات بعيدًا عن الوطن بالقول: “في بلاد الانتقال، تواجه النساء تحديات هائلة؛ منها ارتفاع المبالغ المتعلقة بدفع تكاليف الإقامة التي تعد باهظة الثمن، إلى جانب صعوبة الوصول إلى الخدمات الضرورية، خاصة في حالات العنف والاضطهاد، وعند تعرضهنّ لمشاكل اجتماعية أو اقتصادية يجدنَ صعوبة في الحصول على الدعم اللازم، وهذا ينطبق بشكل خاص على النساء المطلقات، وزوجات المرضى، والنساء اللواتي يحتجنَ إلى رعاية واهتمام، خاصة في البلدان العربية، وقد لا تحصل النساء على أي دعم مالي”.
وتفيد أنّ المرأة اليمنية في بيئة الشتات تواجه تحديات كبيرة، وخصوصًا في الدول العربية؛ إذ تفتقر إلى فرص واعدة. ويُذكر أنّ هناك ما يقارب 8 ملايين و677 ألفًا -منهم يمنيون- من اللاجئين المسجلين لدى المفوضية في مصر؛ ممّا يعكس حجم الاحتياجات والتحديات التي تواجههم.
“إنّ تعلّم اللغة الجديدة في بلد الهجرة يمثل تحدّيًا كبيرًا أمام النساء، مما يصعّب من تكيفهنّ واندماجهنّ في المجتمع الجديد، وغالبًا ما تواجه النساء المهاجرات صعوبات اقتصادية نتيجة ضعف الفرص الوظيفية المتاحة أمامهنّ أو انخفاض الأجور مقارنةً بالرجال”، حسب الدكتورة فالنتينا.
وتكمل: “لا تتوفر للمرأة اليمنية في بلاد الشتات سوى فرص محدودة، باستثناء ما قد يحصلنَ عليه من جنسية أو لجوء سياسي أو إنساني، ويشكّل وجود النساء العربيات والمسلمات في بعض دول الشتات خطرًا عليهنّ؛ بسبب كره بعضهم للعرب والمسلمين”.
توصيات
لتحسين واقع المرأة اليمنية المهاجرة هناك عدة توصيات أفادت بها العبد بالقول: “لا بُدَّ أن تعامل المرأة اليمنية المهاجرة كلاجئة وفقًا لقوانين الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين، بما في ذلك توفير الحقوق والرعاية اللازمة، وتفعيل دور الجامعة العربية والسفارات اليمنية والجاليات والمبادرات في متابعة أوضاع المهاجرين، وتقديم المساعدة اللازمة، سواء المادية (غذائية وصحية) أو المعنوية (الدعم النفسي والصحي والتعليمي)”.
وترى العبد أنّ من المهم إنشاء قاعدة بيانات شاملة عن عدد النازحين والمهاجرين اليمنيين لضمان وصول المساعدات إليهم بشكل منظّم وفعّال، كما ينبغي تسهيل إجراءات التحاق المرأة اليمنية المهاجرة بالمدارس والجامعات في البلدان المضيفة لضمان استمرارية تعليمها وتطوير مهاراتها.
وشدّدت فالنتينا أيضًا على ضرورة تأسيس برامج تدريبية ومهنية متخصصة للمرأة اليمنية المهاجرة لتمكينها اقتصاديًّا وتحسين فرص عملها، وللتأكد من توفير الحماية والدعم الشامل لها عبر التنسيق بين الجهات الحكومية والمنظمات الإنسانية والمجتمع المدني.
وتؤكد أهمية تطوير آليات رصد انتهاكات حقوق المرأة اليمنية المهاجرة، وتوثيقها، واتخاذ الإجراءات، اللازمة لمعالجتها بشكل عام؛ لضمان احترام كرامة المرأة اليمنية المهاجرة، وتمكينها من الحصول على حقوقها الأساسية، وفرص التنمية المستدامة.
في السياق نفسه تقول مانع: “تحسين واقع المرأة اليمنية المهاجرة يتطلب تقديم الدعم القانوني لتسهيل الإجراءات القانونية للمهاجرات، ونشر الوعي حول حقوق المرأة، وهذا يتطلب تعزيز التعاون الدولي بين اليمن والدول المستضيفة؛ لتوفير الدعم اللازم، وإنشاء مراكز اجتماعية ونفسية للمهاجرات، وتقديم برامج تمويل ودعم للمشاريع الصغيرة، تعد خطوات ضرورية لتحقيق بيئة داعمة ومزدهرة للمهاجرات”.